الأهوار جنة ضائعة
ليس ثمة دراسات منشورة كافية عن البيئة في العراق. فمنذ 1978 ظهر عدد قليل جداً من هذه الدراسات، يدور معظمه على التنوع الأحيائي، ولا يتناسب مع التنوع الكبير والجلي في الأنظمة البيئية العراقية، التي تتميز منها:
الجبال الشمالية الشرقية، ويتجاوز أعلاها 3000 متر ارتفاعاً، وتستقبل أمطاراً بمعدل ألف مليمتر سنوياً.
هضبة صحراوية في الشمال الغربي، تمثل 75 في المئة من مساحة الأرض العراقية.
سهول صحراوية شبه قاحلة، في الجنوب الغربي.
سهول ومستنقعات خصبة في منطقة ما بين النهرين، وتشتمل على أهوار وسهول غرينية، وفيها مساحات كبيرة من البرك الضحلة، الدائمة والموقتة، يستوطنها عدد كبير من الطيور.
شط العرب، وهو ممر مائي فريد، ينشأ عند نقطة التقاء نهري دجلة والفرات إلى الشمال من مدينة البــصرة، ويمتد مسافة 110 كيلومترات ليصب في رأس الخليج العربي، في المنطقة الساحلية المحدودة التي يمتلكها العراق والتي لا يزيد طولها عن 50 كيلومتراً
وتبلغ مساحة هذه الأنظمة البيئية، وهي في الواقع كل مساحة العراق، 434 ألفاً و317 كيلومتراً مربعاً. كان العراق يمتلك مساحة لا بأس بها من الغابات الطبيعية، كانت تمثل 4 في المئة من إجمالي مساحة البلاد في العام 1948، لكنها تناقصت حتى تدنت إلى 0,2 في المئة فقط من مساحتها الأصلية في نهاية القرن العشرين. وكانت تحتوي على أنواع هامة من الأشجار كالبلوط. ويقع العراق في مركز الإقليم المعروف باسم "الهلال الخصيب"، وهو أحد مناطق الزراعة الرئيسية في العالم، وربما كان أول منطقة عرفت زراعة المحاصيل وتربية الماشية في نظام زراعي متكامل. وكان ذلك منذ أكثر من 10 آلاف سنة. وهذا يعني امتلاك العراق ثروة هائلة من الصفات الوراثية، التي تحملها سلالات وأنواع حيوانية هي التي تأسس عليها النظام البيئي الزراعي في تلك المنطقة. غير أن هذه الثروة، للأسف الشديد، بلا توثيق علمي. وهذه مسألة خطيرة، خصوصاً أمام ما مرَّت به المنطقة من ظروف قاسية. والخوف أن تكون أنواع نباتية وحيوانية قد اندثرت قبل أن تجد من يهتم بتسجيلها.
وليس ثمة ما يفيد بأن العراق اتخذ إجراءات رسمية لفرض الحماية على مناطق ومواقع بعينها، لأغراض صون الحياة الطبيعية فيها. فالواضح أن الإدارات العراقية المتتالية كان لديها ما يشغلها عن ذلك، ولم تكن حماية الحياة الطبيعية ضمن أولوياتها. ولم يصدر في العراق إلا بعض القوانين التي تتناول أموراً محدودة في هذا المجال، مثل حظر صيد الحيوانات البرية وتنظيم صيد الأسماك. وقد ظلت كلها حبراً على ورق، إذ لا توجد شواهد على العمل بها.
الأهوار هي أبرز الأنظمة البيئية العراقية وأكثرها إثارة للجدل. وكانت تعد واحدة من أهم نطاقات أنظمة الأراضي الرطبة في قارتي آسيا وأوروبا. يعيش في الأهوار قوم من البشر ارتبطوا بها منذ فجر الحضارات القديمة، وعرفوا كيف يوطدون علاقتهم بالمكونات البيئية، ويقيمون حياتهم على ما يقدمه لهم هذا النظام البيئي المتميز من مقومات الحياة. وكانت هذه المستنقعات، وهي في حالتها الأصلية، تمد العراق بحوالي 60 في المئة من إنتاجه السمكي. كما كانت تنتج معظم محصولي الأرز وقصب السكر. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الأهوار تعمل كأنظمة معالجة لمياه نهري دجلة والفرات الملوثة قبل أن تصب في الخليج العربي.
وقد لحق الدمار بأهوار ما بين النهرين في المدة بين 1991 و2002، إذ كانت مساحتها 15 ألف كيلومتر مربع، ولم يبقَ منها إلا 50 كيلومتراً مربعاً. وكان ذلك بسبب إنشاء عدد كبير من السدود ومشاريع الري وإدارة المياه على طول مجرى نهري دجلة والفرات، في كل من العراق وتركيا وسورية. هذا بالإضافة إلى تجفيف متعمد لمساحة كبيرة من المستنقعات، تمت كإجراءات سياسية قمعية ضد سكان المنطقة. ومنذ سنوات قليلة، أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقريراً بعنوان "أهوار ما بين النهرين"، يرصد فيه ما لحق بهذه البيئة من دمار في تسعينات القرن العشرين، وانعكاسات ذلك على الحياة البرية والسكان المحليين. وجاء في التقرير أن تدهور الأهوار أضعف اقتصاديات بعض المصايد في شمال الخليج العربي، وكانت تعتمد على بيئة الأهوار التي كانت تمثل موطن التكاثر لبعض أنواع الكائنات البحرية من الأسماك والقشريات الهامة.
وبالرغم من الأهمية الكبيرة للأهوار كنظام بيئي، فإن العراق لم يوقع على "اتفاقية الأهوار ذات الأهمية العالمية"، كما لم يوقع على اتفاقيتي حماية التنوع الأحيائي وحماية الأنواع المهاجرة. ويلخص من تبقى من سكان الأهوار الوضع الحالي لموطنهم، فيقولون إنه صار محيطاً من الطين النتن، المخلوط بمياه جوفية والمعجون بالنفايات، تتناثر فيه الألغام الأرضية.
المؤكد أن ثمة احتياطات نفطية غير مستغلة تكمن في منطقة الأهوار. والمؤكد أيضاً أن الأنظار تتجه إلى هذه المنطقة، التي نتوقع أن تشهد أنشطة تنقيب مكثفة في الأيام المقبلة. وهكذا، فإنها عانت من التجفيف في عهد صدام حسين، وستعاني من الأنشطة النفطية الآن. وفي الحالين، فالخاسر الأول هو الاعتبارات البيئية. وثمة دلائل واضحة على أن شركات النفط بدأت منذ سنوات قليلة استعداداتها للانقضاض على المنطقة. وفكر بعضها في أن يدخل إلى المسرح متجمِّلاً، حاملاً في يده مشروعاً يحمل اسماً براقاً موحيــاً، هو "عدن تعود"، واعداً بإصحاح البيئة في الأهوار باستخدام جانب من أرباح النفط المستخرج منها. ويحاول مسؤول في الشركة صاحبة مشروع عودة جنة عدن أن يخفف من حدة الشكوك حول التأثير المتوقع للنشاط النفطي في بيئة الأهوار، فيقول متحفظاً: " إن أحداً لا يستطيع القول بأن النفط موجود في كل الأهوار. فالمنطقة هائلة الاتساع، بحيث يمكن أن تحتضن كلاً من النشاط النفطي والجنة! "
بقلم : رجب سعد السيِّد
المصدر : مجلة البيئة والتنمية العدد ( 62 )