بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد، فإنه بدراسة المواد العصوية وعمليات إنتاجها، وبدراسة الكائنات التي تعيش عليها وتستفيد منها، تجمعت لدينا مجموعة من المعلومات يعتبر أغلبها حقائق هامة.
ذلك أن بعضها مشاهدات حسية، وبعضها بدهيات فطرية، هي جزء من كياننا ومن الوجود نفسه، والبعض الثالث نتائج مستنبطة عقلياً، على هذه الحقائق الأساسية يجب أن نبني أخلاقنا، وسلوكنا، وأهدافنا، وأحاسيسنا، وأعمالنا، وقبل ذلك كله عقائدنا ومواثيقنا التي نلتزم بها.
ومن أهم هذه الحقائق ما يأتي:
1. أتى على الأرض حين من الدهر كانت فيه خالية تماماً من الحياة.
2. ثم بدأت الحياة في وقت محدد، وإن كنا لا نعلم تاريخه بالضبط، بدأت الحياة بكائنات بسيطة في احتياجاتها الغذائية، إذ استطاعت العيش والتكاثر على مواد لا عضوية. كيفية نشوء الأفراد الأولي من كل نوع مجهولة لنا تماماً، لكن المؤكد لنا أنها نشأت، وتحقق وجودها، وكان له بداية، ولابد لوجودها من علة فاعلة. أول الكائنات الحية على الأرض كانت ـ على الأرجح ـ هي الطحالب .
صنعت الكائنات الحية الأولى مواد عضوية قليلة .. مهدت لظهور كائنات غيرها تعيش عليها أو تعمل فيها.
3. توالى ظهور أنواع الأحياء عبر عصور تقدر بملايين السنين. ظهور أنواع الأحياء الجديدة يعني إنتاج أشكال جديدة من المواد العضوية، ومن نتائج تحللها.. مما يمهد بدوره لظهور أنواع جديدة تعيش وتتكاثر بسهولة.
هذا هو معنى تطور الحياة على الأرض وترقيها. ما كان للبقليات والبقول ـ مثلاً ـ أن توجد وتنتشر إلا بعد توفر البكتريا العقدية، وما كان لمادة الكيتين أن تظهر على الأرض إلا بعد وجود أشجار السينكونا، وما كان لحمض اللبنيك أن يتوفر إلا بعد نشوء أحد أنواع الكائنات المنتجة له، وما كان لأي كان طفيلي أن يوجد ـ على الأرجح ـ إلا بعد وجود عائلة.
4. إن كل نوع من الكائنات الحية يعتبر جهازاً متخصصاً، ليس فقط من صفاته الشكلية من حجم ولون وصورة أعضاء، ولكن كذلك في غذائه الذي يعتمد عليه، وفي الظروف المناسبة لتكاثره، وكذلك في وظيفته، وفي المواد التي ينتجها، وفيما يتبع ذلك من تغيير في بيئة الأرض.التخصص يعني مثلاً ـ أن شجرة التفاح لا يمكن أن تنتج قمحاً، وأن القرد لا يمكن أن يلد إنساناً. الاختلافات بين المولود وبين أبويه لا يمكن أن تخرجه عن نوعه، وإلا كان مسخاً محتماً عليه العقم أو الهلاك.. على هذا توفرت أدلة وبراهين.
5. هذه التخصصات في الصورة والشكل، وفي ما يختاره أفراد النوع من الغذاء الميت في البيئة، وفي ما يصنعه وينتجه، أو فيما يعمل .. كلها ليست أموراً عشوائية وإنما ثبت لنا أنه تحكمها أوامر وتعليمات مكتوبة في نوى خلاياها بشفرة تفهم وتطاع، وتتوارثها الأجيال. وهي متوائمة مع ما في الوجود كله ومعقولة ومراده، فهي سنن ومواثيق لا يمكن للكائن مخالفتها ولا أن يحيد عنها. بل إن كان ما يحدث في الكون من عمليات وحركات تحكمها سنن وقوانين لا تتغير ولا تغير طريقها. وربما اشتقت كلمة " سنة " (وجمعها " سنن " ) من أنها لا تغير (سننها أي طريقها)ولا تتغير بمرور السنين، فبغيره ما كان ثمة علم ، وما استطعنا أن نتنبأ بحدث (كالخسوف والكسوف مثلاً)، ولا أن نصنع شيئاً بعد حساب كمياته ونتائجه والتخطيط لنجاحه، وما استطعنا أن نتقي شراً أو خيراً، أو نختار سبيلاً وأسلوباً. إن معنى ذلك أن كل شيء على الأرض مسنون بقدر قابل للحساب والتعقل، وليس ثمة فوضى ولا عشوائية، وإنما يعزى عجزنا وجهلنا إلى عدم علمنا بكل السنن، ولكنا نعلم بعضها دون شك.
فمن السنن أن يموت كل كائن حي على الأرض، وأن تتحلل مادة جسمه إلى مكونات معينة.
هكذا يقول وينتج العلم، بل إن هذا هو معنى العلم، وليس العلم إلا العلم بالكليات.. بالحقائق والثوابت والسنن.
6. عرفنا أن الكائنات الحية تتوارث مكونات أجسامها بعد فسادها، فجسم كائن حي جديد يتكون من بقايا تحلل كائنات قديمة فسدت. هكذا يدخل في تركيب جسم (جمل) ذرات من جسم (عجل) وذرات من (دورة)أو(سمكة) أو(شجرة).
لكن تغيير الذرات في جسم الكائن أمر يحدث في كل لحظة ولا يعني هذا تغيير هويته ولا تغيير نوعه، فالهوية والنوع ليستا هما المادة.
كل كائن جديد يتكون من (حمأ)، وهو حمأ لأن البقايا العضوية حين تتحلل تطلق حرارة حامية، وهو حمأ لأن فيه غازات ومواد تغير لون الماء ورائحته وشفافيته فهو أسن مسود كدر. فالحمأ هو الأسود الكدر كما أنه الساخن.
وجود كل كائن حي على الأرض ـ الإنسان من بينها ـ مؤقت وملكيته لمادة في الأرض مؤقتة، ولكن وظيفته كتمهيد لما بعده يبقى أثرها. وجوده الجسماني إلى فناء، ولكن أو شره أبقى من مادته أثراً.
7. تأخر ظهور الإنسان على الأرض حتى توفرت فيها كل المواد المتحللة (الحمأ) الكافية في كما ويكفي لتكوين نسله المتكاثر، والتي تصلح بها حياته، والتي تلزم لعمله وأداء وظائفه. وإنه حمأ خاص اقتضى سنوات كانت ملاييناً، واقتضى سنناً، وكان من أهم السنن حتمية موت الكائنات السابقة بعد أن تنتج مواداً وتؤدي أدواراً فرضت عليها وأريدت لها ـ فهو بهذا وبصفاته الأخرى(حمأ مسنون).
8. لعلنا رأينا في وضوح سهولة تكون أحياء جديدة من بقايا كائنات ماتت وأن التربة والأرض تلعب دوراً هاماً وسيطاً في كثير من العلميات، فهي تتلقى بقايا الكائنات القديمة، وفيها تتحول البقايا إلى حمأ، ومن هذا الحمأ تنشأ الكائنات الجديدة وتبعث فتتحرك وتعمل، وهي في كل أمورها وحركاتها وأشكالها الجديدة وتبعث فتحرك وتعمل، وهي في كل أمورها وحركاتها وأشكالها ووظائفها تطيع وتخضع لسنن أرادها الخالق. فالبعث ليس أمراً يأباه العقل وإنما هو أمر تثبته المشاهدات التجريب العلمي.
قد يقال إن الأرض لا تكفي مادتها ليبعث فيها كل البشر الذين عاشوا عليها في وقت واحد ما داموا سيخلدون، ولكن هذا اعتراض لا يعول عليه فقد يمثل كل فرد بجسم صغير لا يتحلل، فليس حجم الجسم أمراً هاماً، ولكن الأمر الجوهري هو الهوية والماهية. الماهية يمكن أن تتحقق بخلية واحدة، أي نفس واحدة (وما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة * إن الله سميع بصير)(لقمان/28).
ثم إن الكون مليء بكميات من المادة لا حصر لها، والمادة شيء قابل للخلق من غير المادة. قد يقال : إن الكون لابد أن يكون غير الكون الذي نعرفه وأن تكون الأرض غير الأرض التي نعرفها والسماء غير السماء ـ وكلها أمور يقبلها العقل الذي يعلم أن الخالق على كل شيء قدير.