في معرفة الإله المعبود
لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود ، و المعبود هو الله عز و جل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته و افترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم ، و الإرشاد إلى مصالحهم ، و استودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول ، و علم اكتساب يدرك بالفكر و النظر . و لما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطراراً ، و قد ظهر من إظهار آثار صنعته و إتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته و صفاته اكتساباً لإدراكها بالاعتبار و النظر . و لو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس ، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطراراً و وصل إليها استدلالاً و اكتساباً يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول . و الذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول :
أحدهما : أن العالم محدث و ليس بقديم .
و الثاني : ان للعالم محدثاً قديماً .
و الثالث : أنه واحد لا شريك له .
حدوث العالم :
فأما الفصل الأول في حدوث العالم ، فالمحدث ما كان له أول و القديم ما لا أول له . و الدليل على حدوث العالم شيئان :
أحدهما : أن العالم جواهر ، و أجسام لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع و افتراق و حركة و سكون ، و إنما كانت الأعراض محدثة لأمرين :
أحدهما : أنه لا يصح قيامها بذواتها ، و الثاني : لوجودها بعد عدمها و زوالها بعد وجودها ، و ما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها ، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعاً و لا مفترقاً و لا متحركاً و لا ساكناً و هذا مستحيل فاستحال سبقه و ما لم يسبق المحدث فهو محدث .
فإن قيل : فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها فلم يلزم حدوث العالم .
قيل : إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحالة أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة .
و الدليل الثاني على حدوث العالم : وجوده محدوداً متناهي الأجزاء و الأبعاد ، و ما تناهت أجزاؤه و أمكن توهم الزيادة عليه و النقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلاً على أن غيره قدره ، إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لولا تدبر غيره لها .
فإن قيل : فلم لا كانت طينته قديمة و أعراض تركيبه و تصويره حادثة كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة .
قيل : لأن حدوث أعراضه فيه وهو لا ينفك منها فصار محدثاً بها ، و أفعال الله تعالى حادثة في غيره فلم يمنع حدوثها من قدمه ، و لو حدثت فيه لمنعت من قدمه .
محدث العالم قديم :
و أما الفصل الثاني ، أن للعالم محدثاً قديماً فالدليل على أن له محدثاً قديماً شيئان أحدهما : أنه لما استحال أن يكون للعالم محدثأ لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره . و الثاني : أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجداً كما اقتضى المبني بانياً و المصنوع صانعاً و الدليل على قدم محدثه شيئان أحدهما : أنه لا أول له و ما لا أول له قديم . و الثاني : أنه لو لم يكن قديماً لاحتاج محدثه إلى محدث و لا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع و ثبت قدمه أنه لم يزل و لا يزال فلم يكن له أول و لا يكون له آخر و إذا كان محدثه قديماً وجب أن يكون قادراً مريداً . و الدليل على قدرته أنه يصح نه أن يفعل و لا يفعل مع انتفاء الموانع و قد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه و الدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل و هو غير ساه و لا مكره و لا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه و انتفاء الإكراه عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلاً على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلاً على قدمه و حدوث أفعاله و قدمه يوجب أن يكون صفات ذاته قديمة لقدمه و حدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثة .
المحدث واحد لا شريك له :
و أما الفصل الثالث : أنه واحد لا شريك له و لا مثل . فالدليل عليه شيئان :
أحدهما : أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات ، فوجب أن يكون محدث بعضها محدثاً لجميعها ، إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع .
و الثاني : أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلاً أو مخالفاً ، فإن خالفه بطل أن يكون قادراً ، و إن ماثله استحال وجود إحداث و احد من محدثين كما استحال و جود حركة واحدة من متحركين .
زعم من أشرك :
و ذهب الثنوية من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم : نور و ظلمة يحدث الخير عن النور و الشر عن الظلمة ، و هذا فاسد من و جهين :
أحدهما : أن النور و الظلمة لا ينفكان أن يكونا جسماً أو جوهراً أو عرضاً و جميعها محدثة ، فدل على حدوثهما .
و الثاني : أن الظلمة ليست بذات و إنما هي فقد النور عما يقبل النور ، و لهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلماً ، فلم يجز أن يرصف بقدم و لا يضاف إليها فعل .
و ذهب المجوس إلى أن الله تعالى و الشيطان فاعلان ، فالله تعالى فاعل الخير و خالق الحيوان النافع . و الشيطان فاعل الشر و خالق الحيوان الضار . قالوا : لأن فاعل الشر شرير ، و يتعالى الله عن هذه الصفة . و جعلوا الله تعالى جسماً و إن كان قديماً . و اختلفوا في قدم الشيطان فقال به بعضهم ، و امتنع من قدمه زرادشت و أكثرهم . و اختلفوا في علة حدوثه ، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها أهرمن و هو إبليس . و قال غيره بل شك فتولد الشيطان من شكه . و قال آخرون بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه ، و هذه أقاويل تدفعها العقول .
أما جعلهم الله تعالى جسماً : فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسماً : و دليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانياً . و إثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوباً . و علمه يمنع أن يكون شاكاً أو مفكراً . و انتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشاً ، و امتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفناً ، و قولهم : إن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته .
دين النصارى :
فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى و نبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، و هو أول من تنصر من ملوك الروم ، فقال أوائل النسطورية إن عيسى هو الله ، و قال أوائل اليعاقبة إنه ابن الله ، و قال أوائل الملكانية إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس و دفعته العقول فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب و أقنوم الابن و أقنوم روح القدس ، و إنها واحدة في الجوهرية و ان أقنوم الأب الذات و أقنوم الابن هو الكلمة و أقنوم روح القدس هو الحياة .
الأقانيم عند النصارى : و اختلفوا في الأقانيم . فقال بعضهم : هي خواص ، و قال بعضهم هي أشخاص . و قال بعضهم : هي صفات ، و قالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى . و اختلفوا في الاتحاد .
فقال النسطوريه : معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلاً و أن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إآلهي و الآخر إنساني ، فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام و إحياء الموتى ، و الأفعال الإنسانية من الأكل و الشرب .
و قال اليعاقبة : الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء و تجسد من روح القدس و صار إنساناً هو المسيح ، و هو جوهر من جوهرين ، و أقنوم من أقنومين ، جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي .
و قال الملكانية المسيح جوهران : أقنوم واحد و ليس لهذه المذاهب شبهة تقبلهاالعقول و فسادها ظاهر في المعقول .
الرد على النصارى :
أما قولهم : إن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهراً . و أما قولهم : إنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصاً ، و قالوا بالتثليث و امتنعوا من التوحيد ، و قد دللنا على أن القديم واحد .
و إن جعلوا الأقانيم خواص و صفات لذات واحدة فقد جعلوه أباً و ابناً من جوهر أبيه ، فشركوا بينهما في الجوهر الإآلهي و فضلوه على الأب بالجوهر الإنساني ، فلم يكن مع اشتراكهما في الجوهر الإآلهي أن يتولد من الأب بأولى أن يتولد منه الأب مع تفضيله بالجوهر الإنساني ، وكيف يكون قديماً ما تولد عن قديم ؟ و إنما ظهرت منه الأفعال الإآلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهاراً لمعجزته ، و ليست من فعله : كفلق البحر لموسى عليه السلام و ليس ذلك من إآلهية موسى . و قولهم جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء و قد زال ناسوته فبطل لاهوته .
معنى الوحدانية : فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته ، فقالت طائفة : المراد بأنه واحد : أن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات .
و قالت طائفة أخرى : المراد به نفي القسمة عن ذاته ، و استحال التبغض و التجزئة في صفته .
و قال الجمهور : ـ و هو المذهب المشهور ـ : إنه واحد الذات قديم الصفات ، تفرد بالقدم عن شريك مماثل ، و اختص بالقدرة عن فاعل معادل ، لا شبه لذاته تنتفي عنه الحوادث و الأعراض و لا تناله المنافع و المضار ، ولا ينعت بكل و لا بعض ، و لا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه ، لحدوث الأمكنة استحالة التجزئة : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " كما وصف نفسه في كتابه و دلت عليه آثار صنعته و إتقان حكمته . و قد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى و جهه عن العدل و التوحيد فقال : [ التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه ] ففصح بما بهر إيجازه و قهر إعجازه . و قد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال :
أيا عجباً كيف يعصي الإله أم كيف يجحده جاحد
و في كل شيء له شاهد دليل على أنه واحد