ذكر مسير خالد إلى بزاخة وغيرها :
ولما سار خالد إلى بزاخة ، كان عدي بن حاتم معه ، وقد انضم إليه من طيء ألف ، فنزلوا بزاخة ، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام -وهي بطن من طيء- وكان عدي بن حاتم رضي الله عنه من الغوث . وقد همت جديلة أن ترتد ، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل ، فقال : أتريدون أن تصيروا سبة على قومكم؟ ولم يرجع رجل واحد من طئ ، وهذا عدي معه ألف رجل من طئ ، فكسرهم.
فلما نزل خالد بزاخة ، قال لعدي : ألا نسير إلى جديلة؟ قال : يا أبا سليمان ! أقاتل معك بيدين أحب إليك، أم بيد واحدة؟ فقال: بل يدين ، قال : فإن جديلة إحدى يدي . فكف عنهم . فجاءهم عدي ، فدعاهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، فحمد الله ، وسار بهم إلى خالد ، فلما رآهم صاح في أصحابه السلاح ، فلما جاؤوا حلوا ناحية ، فجاءهم خالد ورحب بهم ، فاعتذروا إليه. وقالوا : نحن لك حيث شئت . فجزاهم خيراً ، فلم يرتد من طيء رجل واحد .
فسار خالد على تعبئته ، وطلب إليه عدي أن يجعل قومه مقدمة أصحابه . فقال : أخاف أن أقدمهم ، فإذا ألجمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا ، ولكن دعني أقدم قوماً صبراً ، لهم سوابق . فقال عدي : الرأي ما رأيت ، فقدم المهاجرين والأنصار . ولم يزل يقدم الطلائع منذ خرج من بقعاء، حتى قدم اليمامة . وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا بهم عند مواقيت الصلاة بالأذان لها ، فيكون ذلك دليلاً على إسلامهم .
فلما انتهوا إلى طليحة الأسدي ، وجدوه وقد ضربت له قبة ، وأصحابه حوله. فضرب خالد خيام عسكره على ميل أو نحوه ، وخرج يسير على فرس ، معه نفر من الصحابة ، فوقف قريباً من العسكر، ودعا بطليحة فخرج إليه ، فقال : إن من عهد خليفتنا إلينا : أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن تعود إلى ما خرجت منه . فأبى طليحة ، وكان عيينة بن حصن قد قال له : لا أبالك ، هل أنت مرينا؟ -يعني نبوتك- فقد رأيت ورأينا ما كان يأتي محمداً . قال : نعم ، فبعث عيوناً له ، لما أقبل خالد إليهم ، قبل أن يسمع الناس بإقباله . فقال : إن بعثتم فارسين في فرسين ، أغرين محجلين ، من بني نصر بن قعين، أتوكم من القوم بعين . فبعثوا كذلك ، فلقيا عيناً لخالد ، فأتوا به ، فزادهم فتنة . فلما أبى طليحة أن يجيب خالداً ، انصرف خالد إلى عسكره ، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل وعدي بن حاتم ، فلما كان من السحر نهض خالد ، فعبأ أصحابه ، ووضع ألويته مواضعها ، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب ، فتقدم به ، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار ، وطلبت طئ لواء ، فعقد لهم خالد لواء ، ودفعه إلى عدي . فلما سمع طليحة الحركة عبأ أصحابه ، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة ، فأخرج طليحة أربعين غلاماً جلداً ، فأقامهم في الميمنة ، وقال : اضربوا حتى تأتوا الميسرة ، فتضعضع الناس ، ولم يقتل أحد حتى أقامهم في الميسرة ، ففعلوا مثل ذلك ، وانهزم المسلمون . فقال خالد : يا معشر المسلمين ! الله ، الله . واقتحم وسط القوم وكر معه أصحابه ، فاختلطت الصفوف ، ونادى يومئذ مناد من طيء ، عندما حمل أولئك الأربعون : يا خالد ! عليك بسلمى وأجأ -جبلى طيء- فقال : بل إلى الله الملتجأ. ثم حمل فما رجع ، حتى لم يبق من الأربعين رجل واحد . وتراد الناس بعد الهزيمة ، واشتد القتال ، وأسر حبال بن أبي حبال ، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبي بكر ، فقال : اضربوا عنقي ، ولا تروني محمديكم هذا . فضربوا عنقه .
ولما اشتد القتال ، ، تزمل طليحة بكساء له ، وهم ينتظرون أن ينزل عليه الوحي ، فلما طال ذلك على أصحابه ، وهدتهم الحرب ، جعل عيينة يقاتل ويذمر الناس ، حتى إذا ألح المسلمون عليهم السيف ، أتى طليحة ، وهو في كسائه ، فقال : لا أبا لك هل أتاك جبريل بعد ؟ قال : لا والله ، قال : تباً لك سائر اليوم . ثم رجع عيينة فقاتل ، وجعل يحض أصحابه على القتال ، وقد ضجوا من وقع السيوف . فلما طال ذلك عليهم ، جاء إلى طليحة وهو متلفف بكسائه . فجبذه جبذة شديدة جلس منها ، وقال : قبح الله هذه من نبوة ، ما قيل لك بعد شئ ؟ قال : بلى ، قد قيل لي : عيينة إن ذلك رحى كرحاه ، وأمراً لن تنساه . فقال عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون لك حديث لن تنساه ، يا بني فزارة ! هكذا -وأشار تحت الشمس- انصرفوا . هذا والله كذاب ، ما بورك لنا ولا له فيما يطلب . فانصرفت فزارة ، وذهب عيينة وأخوه في آثارهما ، فأدرك عيينة فأسر ، وأفلت أخوه . ولما رأى طليحة ما فعل أصحابه خرج منهزماً ، فجعل أصحابه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه ، وهيأ امرأته ، فوثب على فرسه وحمل امرأته وراءه ، ثم ولى هارباً ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل هكذا فليفعل . ثم هرب حتى قدم الشام . وذكر : أنه قال لأصحابه ، لما رأى انهزامهم . ويلكم ، ما يهزمكم ؟ فقال له رجل : أنا أخبرك ، إنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله ، وإنا نلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه .
ولما ولى طليحة هارباً ، تبعه عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم . وكان طليحة قد أعطى الله عهداً : أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل ، فلما أدبر ناداه عكاشة بن محصن : ياطليحة ! فعطف عليه ، فقتل عكاشة ، ثم أدركه ثابت ، فقتله أيضاً طليحة ، ثم لحق المسلمون أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا . وصاح خالد : لا يطبخن رجل قدراً ولا يسخن ماء ، إلا وأثفيته رأس رجل .
وتلطف رجل من بني أسد حتى وثب على عجز راحلة خالد ، فقال : أنشدك الله ، أن لا يكون هلاك مضر على يدك ، يا خالد ! حكمك في بني أسد . فنادى خالد : من قام فهو آمن ، فقام الناس كلهم . وسمعت بذلك بنو عامر ، فأعلنوا الإسلام . وأمر خالد بالحظائر أن تبنى ، ثم أوقد فيها النار . ثم أمر بالأسرى فألقيت فيها ، وألقي فيها يومئذ حامية بن سبيع الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه . وأخذت أم طليحة ، فعرض عليها الإسلام ، فوثبت . وأخذت فحمة من النار ، وهي تقول : يا موت عم صباحاً ، كافحته كفاحاً إذ لم أجد براحاً .
وذكر الواقدي : أن خالداً جمع الأسرى في الحظائر ، ثم أضرمها عليهم فاحترقوا أحياء ، ولم يحرق أحداً من فزارة .
فقيل لبعض أهل العلم : لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة ؟ فقال : بلغته عنهم مقالة سيئة ، وثبتوا على ردتهم .
وعن ابن عمر ، قال : شهدت بزاخة مع خالد ، فأظفرنا الله على طليحة ، وكنا كلما أغرنا على قوم سبينا الذراري ، واقتسمنا الأموال .