نقض الصحيفة :
ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي ، وكان يصل بني هاشم في الشعب خفية بالليل بالطعام -مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي- وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - وقال : يا زهير ، أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب،وأخوالك بحيث تعلم ؟ فقال : ويحك ! فما أصنع وأنا رجل واحد ؟ أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها. قال : أنا، قال : ابغنا ثالثاً . قال : أبو البختري بن هشام ، قال : ابغنا رابعاً . قال : زمعة بن الأسود . قال : ابغنا خامساً ، قال : المطعم بن عدي . قال : فاجتمعوا عند الحجون ، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة .
فقال زهير : أنا أبدأ بها ، فجاؤوا إلى الكعبة -وقريش محدقة بها- فنادى زهير : يا أهل مكة ! إنا نأكل الطعام ، ونشرب الشراب ، ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى ، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .
فقال أبو جهل : كذبت ، والله لا تشق . فقال زمعة : أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت .
وقال أبو البختري : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقار عليه .
فقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك . نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها .
وقال هشام بن عمرو : نحو ذلك .
فقال أبو جهل : هذا أمر قد قضي بليل ، تشوور فيه بغير هذا المكان .
وبعث الله على صحيفتهم الأرضة ، فلم تترك اسماً لله إلا لحسته ، وبقي ما فيها من شرك وظلم وقطيعة . وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم ، فذكر ذلك لعمه ، فقال : لا والثواقب ما كذبتني .
فانطلق يمشي بعصابة من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش . فلما رأوهم ظنوا أنهم خرجوا من شدة الحصار ، وأتوا ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم أبو طالب ، فقال : قد حدث أمر ، لعله أن يكون بيننا وبينكم صلحاً ، فائتوا بصحيفتكم -وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها ، فلا يأتون بها- فأتوا بها معجبين . لايشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوع إليهم ، قالوا : قد آن لكم أن تفيئوا وترجعوا خطراً لهلكة قومكم . فقال أبو طالب : لأعطينكم أمراً فيه نصف ، إن ابني أخبرني -ولم يكذبني- أن الله عز وجل بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ، وأنه محا كل اسم له فيها ، وترك فيها غدركم ، وقطيعتكم ، فإن كان ما قال حقاً ، فوالله لا نسلمه إليكم حتى نموت عن آخرنا ، وإن كان الذي يقول باطلاً ، دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه .
قالوا : قد رضينا ، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر ، فقالوا : هذا سحر من صاحبكم ، فارتكسوا وعادوا إلى شر ما هم عليه .
فتكلم عند ذلك النفر الذين تعاقدوا -كما تقدم - وقال أبو طالب شعراً يمدح النفر الذين تعاقدوا على نقض الصحيفة ، ويمدح النجاشي ، ومنه :
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا على ملأ يهدي لحزم ويرشد
أعان عليها كل صقـر كأنه إذا ما مشى في رفرف الذرع أحرد
قعوداً لدى جنب الحجون كأنهم مقاولة بل هم أعـز وأمجـد
وأسلم هشام بن عمرو يوم الفتح .
وخرج بنو هاشم من شعبهم وخالطوا الناس ، وكان خروجهم في سنة عشر من النبوة ، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر .
التعديل الأخير تم بواسطة اسير الصحراء ; 04-26-2006 الساعة 01:55 PM.
|