وما الذي دفع القاضي أن يحكم بهذه القسوة ؟فيما يزعمون ؟
إن الذي دعا إلى هذه القسوة شيء أشد منها قسوة ،ولو تركنا هذه العقوبة القاسية كما يزعمون لوقعنا في أمر أقسى من العقوبة ,وأقسى من موجبها ,فمن الرحمة والشفقة أن نقيم الحد ففيه رحمة بالمحدود وبمن اعتدى عليه وها أنا ذا أسوق لكم مثالا محسوسا كلنا نتفق عليه .إنه مظهر الطبيب الجراح الذي يستأصل بمبضعه جزءا حيا من جسم أخيه الإنسان من كبده أوطحاله أو أمعائه أوكليته أو غير ذلك ,أليست عملية البتر وضرب المبضع في اللحم الحي مظهرا من مظاهر القسوة ؟؟وهل يستطيع أن يمارس هذه العملية إلا قلب قوي ,وقد يعدها البعض قسوة ولكنها الرحمة بعينها,وبخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها ,وبقاء العضو المريض ونار الألم تتوهج وتستشري ,والآلام والأوجاع تتزايد لحظة بلحظة .فحرصا على سلامة جسم المجتمع من سرطان الجريمة كان من الحزم الواجب استئصال العضو المريض الذي لا يرجى من بقائه إلا الفساد و الإفساد , فمن الحكمة أن يبترعضو إبقاء وإنقاء لمجموعة سليمة من الأعضاء تعد بالمئات والألاف .
وقبل أن يحكم الإسلام على شخص بالقتل أو القطع أوما إلى ذلك قد قدم له من وسائل الوقاية ما كلن يكفي لابعاده عن الجريمة التي اقترفها لو كان إنسانا حيا له قلب يعقل,ولكنه أغلق قلبه فلم يقبل نصحا ,وألغى إنسانيته ,فلم يعرف رحمة ولا شفقة, فكان جزاؤه من جنس عمله(1) .
(1) أثر تطبيق الحدود ، للأستاذ الغزالي خليل عيد (ص/168)
الشبهه الثالثة :
قالوا: لماذا كان القتل في حد المحصن رجما بالحجارة ؟
أليس ذلك تحقيرا و إزدراء للإنسانية؟
أليس هنالك وسائل للقتل أشفق وأرحم وأسرع، ونبيكم (صلى الله عليه وسلم ) يقرر أن الله كتب الإحسان على كل شيء :فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ؟ وأي إحسان في القتل بالرجم ؟ أليس الصعق الكهربي مثلا ,أو الشنق وما إلى ذلك من وسائل الإزهاق السريع أخف على المحدود؟
مناقشة الشبهه والرد عليها :
يجاب عن هذه الشبهة بجوابين :
الأول :أن هذا قتل لا يراد منه الإزهاق الروحي و كفى وإلا فكان الصعق الكهربي ونحوه أسرع في تحقيق الغرض المنشود كما يقولون و إنما المراد من هذا القتل بالزجر و الردع مقارنة بالجريمة الشنعاء فليكن القتل بطريقة تليق بمن اقترف هذا الإثم ، إنه ارتكب جرما أهدر فيه كرامة الإنسان ولطخ شرف الإنسان وضيع معالم النسب الإنساني ، ثم ليكن في قتله بهذه الصورة عبرة لمن تسول له نفسه ,أو يزين له الشيطان أن يقترف تلك الجريمة الشنعاء و العاقل من اتعظ بغيره .
الثاني :هل صحيح أن القتل بالصعق الكهربي مثلا أخف ألما و أسرع ازهاقا من القتل بالرجم وهل على ذلك من دليل؟ ولو فرضنا أنهم أتوا ببرهان - و هذا محال - أفلا يجوز أن يكون من مقاصد الشارع الحكيم أن يقتل المرجوم رجما زيادة في الإيلام و الإزدراء لجريمته والتنفير لغيره من تلك الجريمة ؟؟
إن الذي فرض العقوبة وقدرها وبين كيف تكون إنما هو العليم الخبير الذي يعلم دروب البشرية وخباياها والعلاج الأنسب لها(1) .
الشبهه الرابعة :
قال أهل الفتنة و الغواية و الضلال :إن إقامة الحدود فيها تضييق على الأقليات من المواطنبن و إكراه لهم على أن يأخذوا بخلاف ما تقرر أديانهم و مذاهبهم وفي هذا سلب للحرية و اعتداء على قداسيتها .
مناقشة الشبهه والرد عليها :
أولا : كل مواطن في الدولة يجب أن يشترك مع بقية المواطنين في نهضة أمته وفي مسيرتها إلى الرقي,واستتاب الأمن ,وتثبيت النظام ,و طهارة الأخلاق، والمواطن الذي لا يساهم في هذه النواحي يجب أن يؤخذ بالوسيلة التي تقومه .
(1) أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خليل عيد (ص/170)
وثانيا : أن الأقليات تحتاج في المحافظة عليها إلى إقامة الحدود كما يحتاج لذلك بقية المواطنين بل ربما كانت حاجتهم لذلك أشد .
فإذا سأل مواطنا من الأقلية :هل ترضى أن تكون أنت و مواطنوك جميعا أمام قانون الدولة سواء؟ أو تحب أن يكون هنا تفرقة بينكما ؟
فإن اختار المساواة لهم مالنا وعليهم ما علينا .
أما إن هم رغبوا في التفاوت وعدم المساواه قيل لهم :إن لم تقطع يد السارق الذي منكم فلا تقطع يد السارق الذي يسرق مالكم ...
إنهم سيؤثرون المساواة التي تدعوا إليها الفطرة الطيبة ,و إلا كانوا عرضة للمجرمين الذين لا يردعهم إلا إقامة الحدود(1) .
الشبهة الخامسة : إقامة الحد تقتضي إزهاق الأرواح , وتقطيعا للأطراف وبذلك تفقد البشرية كثيرا من الطاقات و القوي ,وينتشر فيها المشوهون و المقطعون و المكسحون الذين كانوا يسهمون في الإنتاج و العمل ,و يساعدون على الرخاء و إسعاد الإنسانية .
مناقشتها و الرد عليها :
إن القتل و تقطيع الأطراف في الحدود إنما يكون في حالات ضيقة محصورة .
إنه إزهاق لنفوس شريرة لا تعمل ولا تنتج بل إنها تعطل العمل و الإنتاج و تضيع على العاملين المنتجين ثمرات أعمالهم وإنتاجهم ,و إقامة الحد بإزهاق روح واحدة تؤدي إلى حفظ أرواح كثيرة و آلاف الأطراف سليمة طاهرة عاملة منتجة مع ملاحظة أننا لا نرى المشوهين و المكسحين يكثرون في البلاد التي تقام فيها الحدود
بل ربما كانت أقل فيها من غيرها من الدول .
وها هي المملكة العربية السعودية مثلا حيا مشهودا ,يسير فيها الراكب من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب و ربما لا يرى فيها مشوها بسبب إقامة الحد و ليس ذلك لأنهم لا يقيمون الحد لا بل لأن اقامتهم للحدود قد حالت بين الناس و بين الجرائم التي تقام بسببها الحدود ,فقلت الجرائم وتبعها قلة من تقام عليهم الحدود
فعندما تقطع يدا واحدة خائنة تحفظ أيادي أمينة عاملة لا تعد ولا تحصى .
ويا ليت الناس ينظرون ويوازنون بين عدد المشوهين والمقطعين الذين جنت عليهم جرأة المجرمين , والذين يتخذون من ذلك وسيلة للتسول وإستدرار عطف المحسنين ، بين هؤلاء وأولئك من جانب وبين عدد المقطعين الذين أقيمت فيهم حدود الله و أحكامه من جانب آخر .
إنهم بهذه الموازنة سيدركون بلا شك أن إقامة الحد تحصين للمجتمع , وحفاظ للأمة
و توفير لطاقات القوى البشرية و الأيدي العاملة(2) .
(1) أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خليل عيد ( ص/ 171)
(2) المرجع السابق ( ص/ 171-172)
الشبهة السادسة : في إقامة الحدود سلبا لحق الحياة ,وهو حق مقدس لا يجوز لأحد سلبه ,فكيف تسوغون لحاكم أ يسلبه محكوما حق الحياة و كيف يجوز لقاض عادل أن يقضي على إنسان بالقتل و إزهاق الروح .
مناقشتها والرد عليها :
أن الشارع الحكيم هو الذي منح حق الحياة و قدسه و جعل الدماء و الأموال و الأعراض محرمة بين الناس و الذي أكد هذا التقديس و الاحترام إقامة الحدود وإن المحدود الذي استحق الرجم أو القتل هو الذي جنى على نفسه لأنه لم يحترم حق غيره ولو أنه احترم حق الحياة في غيره لحفظ له حق الحياة في نفسه فالمعتدي على حق الحياة في غيره يعد معتديا على حق الحياة في نفسه .
و لذلك حينما أراد الله أن يحذر الناس من أن يقتل بعضهم بعضا قال : (ولا تقتلوا أنفسكم) و هو تعبير قمة في البلاغة و الزجر مع التلويح بحكمة النهي ذلك أن قاتل غيره متسبب في قتل نفسه ,قصاصا أو حدا ولأن المعتدي على حق الحياة الإنسانية معتد على حق مقدس مشترك بينه وبين بقية الأحياء من بني آدم وبنات حواء هذا من ناحية .
ومن ناحية أخرى يريد القرآن الكريم أن يعمق في نفوس المسلمين ذلك المبدأ الأخوي الرحيم الذي دعا إليه الرسول الكريم بقوله ( المسلم أخو المسلم ....)(1) .
الشبهة السابعة :
أن إقامة الحدود عملية تشبه بمحاولة جبر الزجاج إذا انشغب فهي لن تصلح ما انفسد, ولن تجبر ما انكسر و لن تعيد للمرء ما انثلم من دينه , أو انخدش من عرضه أو لطخ من كرامته ولن ترجع للمجني حياة مفقودة ولا عافية أو سلامة مسلوبة فما الداعي لزيادة الكارثة .
مناقشتها و الرد عليها :
لا شك أن في إقامة الحد :
( أ ) تطهير للحدود من إثم الجريمة و بخاصة إذا أقترن ذلك بالتوبة من جانبه ، كما ينبئ ذلك حديث الزانية التي جاءت لرسول الله كما يقيم عليها الحد ..( أنها تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ..)(2)
(ب) و هي كذلك ترد للمجني عليه اعتباره في كثير من الحالات , فالمقذوف يرد له اعتباره وتعلوا كما كانت كرامته و لنا في قصة الإفك آيات وعبر .
(جـ) هذا فضلا عن الوقاية التي توفرها إقامة الحدود للناس , فإنها ترهبهم و تنفرهم من الوقوع في الجريمة لئلا تنزل بهم العقوبات(3) .
(1) أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خليل عيد ( ص/ 173)
(2) سبق تخريجه ص: 5
(3) المرجع السابق ( ص/ 174)
الشبهة الثامنة :
إن إقامة الحدود تقهقر بالإنسانية الراقية وانتكاس بها ورجعة إلى عهود الظلام الدامس و القرون الوسطي و الأخذ بما كان عليه الناس في تلك القرون
البائدة والبلاد المتأخرة و هل يليق عاقل متمدين يعيش في القرن العشرين أن يأخذ بقانون نشأ بين جبال مكة وأحراش الجزيرة وجلاميد الصحراء ؟
مناقشتها والرد عليها :
إن هذه الشبهة زائفة فالعاقل لا يزن القول بالبقعة التي جاء منها أو نبت فيها , ولا بالزمان الذي قيل فيه أو نقل منه , ولكن الميزان الذي تقوم به الأقوال و القوانين إنما هو ميزان الحق والعدل و تحقيق الغاية المبتغاة ,فالعاقل نصير الحق وناشد للحكمة أنى وجدها وعلى أي لسان وفي أي مكان أو زمان وهو عدو للباطل وغريمه بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه ومن دعا إليه أو عمل به على أننا نعرف أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض وإنما هو قانون السماء أنزله الله رحمة وشفاء لأهل الأرض كما ينزل لهم الغيث الذي يحي به الأرض بعد موتها .
إن مجيء هذا التشريع على لسان ذلك الأمي ومن صحراء العرب وفي القرون الوسطى كل ذلك آيات إعجاز ودليل صدق على أنه تشريع من حكيم خبير على لسان نبي بعث للعالمين (1).
الشبهة التاسعة :
وهذه الشبهة تكاد تكون مقاربة للسابقة : أن إقامة الحدود ردة تاريخية , ونكسة إنسانية ورجعة بالناس إلى مراحل قد اجتازها وترقوا عنها صاعدين في مدارج المدنية الراقية و الحضارة الزاهرة .
مناقشتها والرد عليها :
يعني هؤلاء الناس البشرية كلما تقدم بها الزمان وجب أن تتنصل من السابق لأنه قديم وأن تسعى وراء الطريف الجديد لأنه تطوير وتجديد .
فلا يجوز في شرعة المنصفين أن يؤخذ بهذا المبدأ على اطلاقه وإلا يجب أن يترك الماء لأنه قديم وأن نبحث عن شراب خير منه جديد , وبخاصة إذا رأينا أن الصناعة قد ارتقت وأن المعامل والصيادل قد تفوقت فما لنا ولهذا القديم الذي طال عليه الزمان ؟
فالمقياس الذي نحتكم إليه في تقدير الأمور و تقويمها لا يرتكز على الجدة والقدم :فكم من جديد أسمى وأثمن من قديم ,وكم من قديم أجل وأطيب وأصفى من جديد ,والميزان الذي نحتكم إليه هو ميزان النفع والضر والطيب والخبيث ,لا الجدة والقدم وحدهما(2) .
(1) أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خيل عيد ( ص/ 175)
(2) المرجع السابق ( ص/176)
الشبهة العاشرة :
في الحد على شرب الخمر سلب للحرية الشخصية فإن من الحرية الشخصية أن يشرب المرء ما يشاء ويأكل ما يشاء .
مناقشتها والرد عليها :
ليست الحرية أن ينطلق المرء كما يشاء بلا قيد ولا حد , فتلك هي الفوضى بعينها , وتلك إهدار لحرية الآخرين , وعدوان على حقوق الله وحقوق المجتمع , وحقوق الأفراد ، وإنما المفهوم الصحيح للحرية هو أن تفعل ما تشاء في حدود النظام المفروض ,ومع احترام حرية الآخرين ...
وشارب الخمر : خارج على النظام , مهدد للجماعة في خلقها وكرامتها , ومهدد لحرية غيره ,ومعتد بالفعل على نفسه وعقله وكرامته وليس من حق أي فرد أن يعتدي ولو على نفسه , فلا يجوز أن ينتحر الإنسان ولا أن يحدث لنفسه عاهة أو مرضا ولا أن يجني على حاسة من حواسه , فكيف يجوز له أن يجني على عقله الذي شرفه الله به (1).
الشبهة الحادية عشرة :
زعم أن حد الردة معناه الإكراه بالدين , والقرآن الكريم يقول (( لا إكراه في الدين ..)) , وقالوا :إنه يحمل الكثير من الناس أن يتظاهروا بالإسلام وأن يبطنوا الكفر خوفا من إقامة الردة ,وذلك يستلزم أن يفشوا النفاق و المنافقين, ولا شك أن المنافقين أشد على المسلمين من الكفارالمصارحين بكفرهم .
مناقشتها والرد عليها :
(1) أن عقوبة الردة إنما تقام على من اعتنق الإسلام ثم رجع عنه, أما الكافر الأصلي
الذي لم يسبق له الإسلام فلا يقام عليه الحد وله أحكام أخرى من أمان أو عهد أو شبه كتاب , وفي كثير من الحالات يخير بين الإسلام و الجزية و السيف وهذا التخيير معناه عدم الإكراه على شيء معين .
(2) يفهم من هذه الآية الكريمة أنها نفي باق على أصله , وأن المعني- و الله أعلم- أن لا دين معتبر مع الإكراه عليه وأن الدين انما يكون مقبولا إذا كان صاحبه مؤمنا به مختارا مذعنا منقادا فلا بد للدين كي يكون مقبولا من صاحبه من أمرين :
الأول : التصديق القلبي وهو لا يمكن أن يكون قسرا وإكراها .
الثاني : الإذعان والإنقياد أما العناد والجحود مع التصديق القلبي فليس ذلك من الدين في شيء .
ولذلك وصف الله قوم فرعون بقوله : (( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ....))
(3) أن هذه العقوبة لا تنفذ إلا بعد أن تعطي للمرتد فرصة يستتاب فيها ,فلعله يرجع
إلى رشده .
(1) أثر تطبيق الحدود ، الغزالي خليل عيد (ص/ 179)
(4) أن مشروعية الاستتاب هذه ترد على من يقول بأن الحد يستلزم كثرة المنافقين ,فإن الأمر على عكس ذلك فهي تفتح باب النقاش و الإقناع بالحجة والبرهان , ودين الله الإسلام ,جاء مسايرا للعقل و الفطرة السليمة ولم يكلف الناس بما لا يطيقون بل دعاهم إلى كل ما فيه خيرهم وحذرهم مما يضرهم ولا ينفعهم .
(5) إن الراجع عن الإسلام بعد اعتناقه خارج على النظام الإجتماعي العام للدولة لأن الدولة التي تقيم الحدود إنما هي الدولة الإسلامية التي تدين بالإسلام وتعتبره أساس نظامها ودستورها فالمرتد خارج على نظامها الإجتماعي والدول في الشرق
والغرب وفي القديم والحديث تحمي نظامها ما استطاعت وتفرض أقسى العقوبات