![]() |
حوادث السنة الثامنة عشرة :
ثم دخلت السنة الثامنة عشرة . فيها : أصاب الناس مجاعة شديدة ، وتسمى عام الرمادة ، لكثر ما هلك فيها من الناس والبهائم جوعاً ، فاستسقى عمر بالناس . وسأل العباس أن يدعو الله ، ويؤمن عمر والناس على دعائه ، فأزال الله القحط . وفيها وقع طاعون عمواس بالشام ، وقد هلك فيه خمسة وعشرون ألفاً . ومات فيه أبو عبيدة عامر بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم . فلما بلغ عمر موتهم : أمر على الشام معاوية بن أبي سفيان . |
حوادث السنة التاسعة عشرة :
ثم دخلت السنة التاسعة عشر . فتح فيها فتوح كثيرة شرقاً وغرباً . |
حوادث السنة العشرين :
ثم دخلت السنة العشرون . وفيها : فتحت مصر والإسكندرية . وفيها : أجلى عمر رضي الله عنه اليهود من الحجاز إلى أذرعات وغيرها . |
حوادث السنة الحادية والعشرين :
ثم دخلت السنة الحادية والعشرون . وفيها : كان فتح نهاوند ، وأميرها النعمان بن مقرن ، وقتل يومئذ . وفيها : مات خالد بن الوليد رضي الله عنه بحمص . وفيها : مات عمرو بن معدي كرب ، وطليحة بن خويلد الأسدي -الذي كان تنبأ، ثم أسلم وحسن إسلامه ، وأبلى في قتال الفرس بلاء حسناً- قتلا مع النعمان بن مقرن بنهاوند . |
حوادث السنة الثانية والعشرين :
ثم دخلت السنة الثانية والعشرون : وفيها : دخل الأحنف بن قيس خراسان ، وحارب يزدجرد آخر ملوك الفرس فهزمه الله تعالى فيها . وفيها : اعتمر عمر . فتلقاه نافع بن الحارث -وكان عامله على مكة- فقال له عمر : من خلفت ؟ قال : ابن أبزى ، قال عمر : ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى لنا ، إنه قارىء للقرآن ، عالم بالفرائض . قال عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ، ويضع به آخرين. |
حوادث السنة الثالثة والعشرين :
ثم دخلت السنة الثالثة والعشرون : وفيها : قتل عمر رضي الله عنه في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة ، ودفن يوم الأحد هلال المحرم سنة أربع وعشرين . ولما رجع من الحج في آخرها قام خطيباً ، فقال : إني رأيت كأن ديكاً أحمر نقرني نقرتين أو ثلاثاً ، ولا أرى ذلك إلا حضور أجلي. ثم خرج إلى السوق ، فلقيه أبو لؤلؤة المجوسي ، غلام المغيرة بن شعبة ، وكان صانعاً يعمل الأرحاء ، فقال له : ألا تكلم مولاي يضع عني من خراجي ؟ قال : وكم خراجك ؟ قال : دينار ، قال : إنك لعامل محسن . فقال : وسع الناس عدلك وضاق بي . وأضمر قتل عمر ، فاصطنع له خنجراً ذا حدين وشحذه وسمه . ثم أتى به الهرمزان . فقال : كيف ترى هذا ؟ قال : أرى أنك لا تضرب به أحداً إلا قتله . فلما كبر عمر رضي الله عنه في صلاة الصبح ، طعنه ثلاث طعنات . وقصة مقتله في الصحيحين . وكانت خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال ، أو خمس . وبموته انفتح باب الفتنة إلى اليوم . وقال عبد الله بن سلام لعمر رضي الله عنهما : إني أرى في التوراة : أنك باب من أبواب جهنم . قال : فسر لي ، قال : أنت باب من أبوابها مغلقاً ، لئلا يقتحمها الناس ، فإذا مت انفتح . وفتح الله على يديه من بلاد الكفار ألفاً وستاً وثلاثين مدينة . وخرب أربعة آلاف بيعة وكنيسة . وبنى أربعة آلاف مسجد . ودون الدواوين ، ومصر الأمصار . ووضع الخراج ، وأرخ التاريخ . وله الفضائل المشهورة ، والسوابق المأثورة ، رحمه الله ورضي عنه . |
حوادث سنة أربع وعشرين :
ثم دخلت السنة الرابعة والعشرون : فاستخلف فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه ، لغرة هلال المحرم -أو لثلاث من المحرم- بعد دفن عمر بثلاثة أيام . أسلم قديماً ، وكان من ذوي السابقة ، ومن ذوي الشرف والعلم . هاجر الهجرتين ، وصلى القبلتين . وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الابنتين . ولم ينكح ابنتي نبي من آدم إلى قيام الساعة غيره . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمه ويستحي منه ، ويقول: ما لي لا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء ؟ . وفي هذه السنة : توفي سراقة بن مالك ، وأم الفضل زوجة العباس ، وأم أيمن بركة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . |
حوادث سنة خمس وعشرين :
ثم دخلت السنة الخامسة والعشرون : فتوفي فيها عبد الله بن أم مكتوم المؤذن ، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي ، الذي حزر المسلمين يوم بدر . ثم تعاهد هو وصفوان بن خلف الجمحي على اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب إلى المدينة ، بدعوى افتداء ابنه وهب الذي كان أسر يوم بدر ، فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قص عليه رسول الله ما تعاهد هو وصفوان عليه ، فشهد شهادة الحق وأسلم . وفيها توفي عروة بن حزام العاشق . |
حوادث سنة ست وعشرين :
ثم دخلت السنة السادسة والعشرين . وفيها : غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح إفرقية ، ومعه العبادلة -عبد الله بن نافع بن قيس ، وعبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن الزبير- فلقي جرجس ملك البربر في مائتي ألف ، فقتل جرجس ، قتله عبد الله بن الزبير ، وفتح الله على المسلمين . وفيها : مات خارجة بن زيد الأنصاري الذي تكلم بعد الموت . وكان من كلامه : خلت ليلتان . وبقيت أربع ، بئر أريس ، وما بئر أريس ؟ وفيه اعتمر عثمان ، فكلمه أهل مكة أن يحول الساحل إلى جدة ، وقالوا : هي أقرب إلى مكة وأوسع ، وكانوا يرسون قبل ذلك في الشعبية . فخرج عثمان إلى جدة فرآها ، وحول الساحل إليها . |
حوادث سنة سبع وعشرين :
ثم دخلت السنة السابعة والعشرون . وفيها -على قول ابن جرير- كان فتح إفريقية والأندلس على يد عبد الله بن أبي سرح . وفيها : عزل عثمان رضي الله عنه عمرو بن العاص عن مصر ، وولى عليها عبد الله بن أبي سرح . وفيها : مات عبد الله بن أبي كعب بن عمرو رضي الله عنه ، وكان من أهل بدر . |
حوادث سنة ثمان وعشرين :
ثم دخلت السنة الثامنة والعشرون . فيها غزا معاوية بن أبي سفيان البحر ، ومعه عبادة بن الصامت ، وامرأته أم حرام بنت ملحان -أخت أم سليم- فسقطت عن دابة فهلكت . وهي التي نام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها وقت قيلولة . فاستيقظ وهو يضحك ، فسألته ؟ فقال : "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج البحر ، ملوكاً على الأسرة -أو كالملوك على الأسرة- فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : أنت منهم . ثم نام ثم استيقظ وهو يضحك ، فسألته . فقال مثل قوله . فقالت : ادع الله أن يجعلني منهم . فقال : أنت من الأولين" . وفيها غزا معاوية قبرس ، فصالحه أهلها . |
حوادث سنة تسع وعشرين :
ثم دخلت السنة التاسعة والعشرون . فيها : شكا الناس إلى عثمان رضي الله عنه ضيق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأمر بتوسعته ، وبناه بالحجارة المنقوشة ، والقصة -وهي الجص- وفيها وسع المسجد الحرام كذلك . وفيها : مات سليمان بن ربيعة الباهلي رضي الله عنه ، وكان عمر رضي الله عنه ولاه قضاء المدائن. فمكث أربعين يوماً لم يختصم إليه اثنان . |
حوادث سنة ثلاثين :
ثم دخلت سنة ثلاثين . وفيها : وقع خاتم رسول الله من يد عثمان بن عفان رضي الله عنه في بئر أريس ، فنزحت ولم يوجد ، فحزن لذلك أشد الحزن ، فوقع من الرعية الخلل على عثمان بعدها . وفيها : غزا سعيد بن العاص من الكوفة خراسان ، ومعه حذيفة بن اليمان ، والحسن ، والحسين ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم . وفيها : كان ما كان من أمر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، وشدة إنكاره على معاوية وأهل الشام في الاستمتاع بما أنعم الله عليهم ، والتوسع فيما أباح لهم ، وأفاء عليهم من الأموال ، وأنه يرى : أن لا يبيت أحد من المسلمين وعنده درهم ولا دينار وإلا كان من الذين يكنزون الذهب والفضة . فكتب معاوية في شأنه إلى عثمان ، فكتب عثمان بإشخاص أبي ذر إلى المدينة، ومحاولة بعض دعاة الفتنة الالتفاف حول أبي ذر . فهرب منهم إلى الربذة بإذن عثمان وفي طاعته . وأقام بها حتى مات رضي الله عنه . وفيها : زاد عثمان النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء حين كثر الناس ، فثبت الأمر على ذلك إلى اليوم ، والزوراء دار كانت له بالمدينة . وفيها : مات أبي بن كعب ، سيد القراء ، وأحد القراء الأربعة . |
حوادث سنة إحدى وثلاثين :
ثم دخلت السنة الحادية والثلاثون . وفيها : قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس ، وهو الذي مزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعاه فيه إلى الإسلام ، فدعا عليه أن يمزق الله ملكه . وفيها : فتح حبيب بن مسلمة الفهري أرمينية . وقال الواقدي : كان في هذه السنة غزوة الصواري في البحر . وكان فيها : محمد بن أبي حذيفة ، ومحمد بن أبي بكر . فأظهرا عيب عثمان وما غير ، وما خالف أبو بكر وعمر ، ويقولان : دمه حلال . |
حوادث سنة اثنتين وثلاثين :
ثم دخلت السنة الثانية والثلاثون . فيها : غزا معاوية بلاد الروم ، حتى بلغ مضيق القسطنطينية . وفيها : مات عبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود . وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري -جندب بن جنادة- والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن حرب ، رضي الله عنهم . |
حوادث سنة ثلاث وثلاثين :
ثم دخلت السنة الثالثة والثلاثون . وفيها : ذكر أهل العراق عثمان بالسوء ، وتكلموا فيه بكلام خبيث في مجلس سعيد بن العاص ، فكتب في أمرهم إلى عثمان ، فكتب يأمره بإجلائهم إلى الشام . فلما قدموا على معاوية أكرمهم وتألفهم . ونصحهم ، فأجابه متكلمهم بكلام فيه شناعة ، ثم نصحهم فتمادوا في غيهم وجهالتهم وشرهم . فنفاهم معاوية عن الشام ، وكانوا عشرة : كميل بن زياد ، والأشتر النخعي -مالك بن يزيد-، وعلقمة بن قيس النخعي ، وثابت بن زيد النخعي ، وجندب بن زهير العامري ، وجندب بن كعب الأزدي ، وعروة بن الجعد ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وصعصعة بن صوحان ، وأخوه زيد بن صوحان وابن الكواء . فأووا إلى الجزيرة ثم استقروا بحمص حتى كانت الفتنة التي قادوها لقتل عثمان . وفيها : مات المقداد بن عمرو رضي الله عنه . |
حوادث سنة أربع وثلاثين :
ثم دخلت السنة الرابعة والثلاثون . فيها : تكاتب المنحرفون عن عثمان -وكان جمهورهم من أهل الكوفة- وتواعدوا أن يجتمعوا لمناظرته فيما نقموا عليه. فبعثوا إليه منهم من يناظره فيما فعل في تولية من ولى وعزل من عزل ، حتى شق عليه ذلك جداً . فبعث إلى أمراء الأجناد ، فأحضرهم عنده ، واستشارهم ، فكل أشار برأي ، ثم انتهى الأمر بأن قرر عماله على ما كانوا عليه . وتألف قلوب هؤلاء ، وأمر بهم أن يبعثوا إلى الغزو وإلى الثغور ، فلم يمنعهم ذلك من التمادي في غيهم . وفيها : توفي أبو طلحة الأنصاري ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما . |
حوادث سنة خمس وثلاثين :
ثم دخلت السنة الخامسة والثلاثون . وفيها : مات من الصحابة عمار بن ربيعة ، أسلم قديماً وشهد بدراً رضي الله عنه . وفيها : كان خروج جماعة من أهل مصر ومن وافقهم على عثمان . وأهل الفتنة ومنبعها : كان من عبد الله بن سبأ -رجل يهودي من أهل صنعاء ، أظهر الإسلام ليخفي به حقده عليه وكفره به في زمن عثمان- وكان ينتقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم . فبدأ بالحجاز ، ثم البصرة ، ثم الكوفة ، ثم الشام ، فلم يقدر على ما يريد . فأخرجوه حتى أتى مصر ، فغمز على عثمان ، وقاد الفتنة . وأشعل نارها ، محادة لله ولرسوله ، حتى كانت البلية الكبرى بمحاصرة عثمان رضي الله عنه واغتياله ، وهو يتلو كتاب الله تعالى . وكان بيد أولئك المجرمين الخوارج في ذي الحجة من هذه السنة ، رضي الله عنه . وبقتله وقعت الفتنة العظيمة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس في بقايا من شرها إلى اليوم . ويروى : أن عثمان رضي الله عنه صلى في الليلة التي حوصر فيها ونام ، فأتاه آت في منامه ، فقال له : قم فاسأل الله أن يعيذك من الفتنة التي أعاذ منها صالحي عباده . فقام فصلى ، ودعاه فاشتكى ، فما خرج إلا جنازته . قال أهل السير : لما كان من أمر عثمان ما كان ، قعد علي بن أبي طالب في بيته ، فأتاه الناس ، وهم يقولون : علي أمير المؤمنين ، فقال : ليس ذلك إليكم ، إنما هو إلى أهل بدر . فأتاه أهل بدر ، فلما رأى ذلك علي خرج فبايعه الناس ولم يدخل في طاعته معاوية وأهل الشام ، فهم علي بالشخوص إليهم . |
وقعة الجمل :
وبلغ الخبر عائشة -وهي حاجة- ومعها طلحة ، والزبير . فخرجوا إلى البصرة يريدون الإصلاح بين الناس ، واجتماع الكلمة . وأرسل علي عمار بن ياسر وابنه الحسن بن علي إلى الكوفة يستنفرون الناس ليكونوا مع علي ، فاستنفروهم ، فنفروا . وخرج علي من المدينة في ستمائة رجل . فالتقى -هو والحسن- بذي قار ، ثم التقوا -هم وطلحة والزبير- قرب البصرة . وكان في العسكرين ناس من الخوارج ، فخافوا من تمالؤ العسكرين عليهم ، فتحيلوا حتى أثاروا الحرب بينهما من غير رأي . فكانت وقعة الجمل المشهورة ، لأن عائشة كانت في هودج على جمل ، وعقر الجمل ذلك اليوم ، فأمر علي بحمل الهودج ، فحمله محمد بن أبي بكر ، وعمار بن ياسر ، فأدخل محمد يده في الهودج ، فقالت : من ذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أحرقه الله بالنار . قال : يا أختاه ، قولي بنار الدنيا . فقالت : بنار الدنيا ، فكان الأمر كذلك . وكانت وقعة الجمل في جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين . ثم التقى علي وعائشة. فاعتذر كل منهما للآخر . ثم جهزها إلى المدينة، وأمر لها بكل شئ ينبغي لها ، وأرسل معها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات . وفي هذه السنة : مات حذيفة بن اليمان ، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدامة بن مظعون رضي الله عنهم . |
حوادث سنة سبع وثلاثين :
ثم دخلت السنة السابعة والثلاثون . فسار علي رضي الله عنه ، والتقى هو وأهل الشام بصفين ، لسبع بقين من المحرم -وصفين اسم موضع بين الشام والعراق-فكانت به الوقعة المشهورة . فلما اشتد البلاء على الفريقين ، وطال أياماً ، وكثر القتل بينهم : رفع أهل الشام المصاحف على رؤوس الرماح ، ونادوا : ندعوكم إلى كتاب الله ، فسر الناس ، وأنابوا إلى الحكومة . فحكم أهل الشام عمرو بن العاص ، وحكم علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، وكتبوا بينهم العهود بالرضى بما يحكم به الحكمان . فلما حل الموعد في رمضان توافوا بأذرح ، بدومة الجندل . فلم يتفق الحكمان على شئ . وانصرف علي رضي الله عنه إلى العراق ، ومعاوية رضي الله عنه إلى الشام . فلما وصل علي الكوفة خرجت عليه الخوارج ، وكفروه حيث رضي بالتحكيم . وقالوا : لا حكم إلا لله . واجتمعوا بحروراء -اسم موضع بالعراق- فسموا الحرورية ، فأرسل علي إليهم عبد الله بن عباس فأتاهم ، قال : فلم أر قوماً أشد اجتهاداً منهم ، ولا أكثر عبادة، فقال : ما تنقمون ؟ قالوا : ثلاث . إحداهن : أنه حكم الرجال في أمر الله ، وقد قال الله تعالى : " إن الحكم إلا لله " . والثانية : أنه قاتل ، ولم يسب ولم يغنم ، فإن كانوا مؤمنين ، فما حل لنا قتالهم ؟ وإن كانوا كافرين ، فقد حلت لنا أموالهم وسبيهم . والثالثة : أنه محا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين . فقال لهم : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله الحكم ، وحدثتكم من سنة نبيكم ما لا تنكرون ، أترجعون ؟ قالوا : نعم. فقلت: أما قولكم : إنه حكم الرجال في دين الله ، فإن الله تعالى يقول : " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " إلى قوله : " يحكم به ذوا عدل منكم " ، وقال تعالى : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها "... أنشدكم الله ، أفتحكيم الرجال في إصلاح ذات بينهم . وحقن دمائهم وأموالهم أحق ، أم في أرنب ثمنها ربع درهم ، أو بضع امرأة ؟ فقالوا : اللهم بلى ، في حقن دمائهم ، وإصلاح ذات بينهم ، فقلت : أخرجت من هذه ؟ فقالوا : اللهم نعم . وأما قولكم : إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، أفتسبون أمكم ، وتستحلون منها ما تستحلونه من غيرها ؟ فإن قلتم : نعم ، فقد كفرتم . وإن زعمتم أنها ليست لكم بأم ، فقد كفرتم ، لأن الله يقول : " وأزواجه أمهاتهم " ، فإن كنتم تترددون بين ضلالتين ، فاختاروا أيتهما شئتم . أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : وأما قولكم : إنه محا نفسه من أمير المؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -يوم الحديبية- أراد أن يكتب بينه وبين قريش في الصلح . فقال لعلي : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ، ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، امح يا علي ! واكتب . محمد بن عبد الله ، فقال : والله لا أمحوك أبداً . قال : فأرني موضعه ، فأراه ذلك ، فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فوالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من علي ، أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم. فرجع منهم أربعة آلاف ، وخرج عليه باقيهم ، فقاتلوه ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأمر بالتماس المخدج ذي الثدية ، فلما وجده سجد لله شكراً . وفي هذه السنة مات خباب بن الأرت ، وخزيمة ذو الشهادتين ، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم . |
حوادث سنة ثمان وثلاثين :
ثم دخلت السنة الثامنة والثلاثون : فيها : قتل محمد بن أبي بكر وأحرق . وفيها : مات سهل بن حنيف ، وصهيب الرومي . ثم دخلت السنة الأربعون . وفيها : كتب معاوية إلى علي :أما إذا شئت فلك العراق ، ولي الشام ، ونكف السيف عن هذه الأمة ، ولا نهريق دماء المسلمين. ففعل ، وتراضيا رضي الله عنهما على ذلك . وفيها : قتل علي رضي الله عنه ، قتله ابن ملجم -رجل من الخوارج- لما خرج لصلاة الصبح ، لثلاث عشرة ليلة بقيت من رمضان . فبايع الناس ابنه الحسن ، فبقي خليفة نحو سبعة أشهر ، ثم سار إلى معاوية ، فلما التقى الجمعان ، علم الحسن : أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى ، فصالح معاوية ، وترك الأمر له ، وبايعه على أشياء اشترطها ، فأعطاه معاوية إياها وأضعافها . وجرى مصداق ما صح "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن : إني ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". "وصح عنه أنه قال في الخوارج : يخرجون على حين فرقة من الناس ، تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق" . "وصح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة : أنه نهى عن القتال في الفتنة ، وأخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعها، وحذر منها ". فحصل بمجموع ما ذكرنا : أن الصواب مع سعد بن أبي وقاص، وابن عمر ، وأسامة بن زيد ، وأكثر الصحابة الذي قعدوا واعتزلوا الطائفتين . وأن علي بن أبي طالب وأصحابه : أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه . وأن الفريقين كلهم لم يخرجوا من الإيمان . وأن الذين خرجوا من الإيمان : إنما هم أهل النهروان . وأن ما فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما : أحب إلى الله مما فعل أبوه علي ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمدحه على ترك واجب ، أو مستحب . وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم . ولا يقال فيهم إلا الحسنى ، فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة ، فقد خرج عن الإجماع ، والله سبحانه وتعالى أعلم . |
عام الجماعة
وكان هذا العام يسمى عام الجماعة ، لاجتماع المسلمين فيه على إمام واحد ، بعد الفرقة ، وهو عام إحدى وأربعين في ربيع الأول ، فاجتمعوا على معاوية رضي الله عنه ، ودعي أمير المؤمنين ، ورجع الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى المدينة . ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين : فيها مات عمرو بن العاص رضي الله عنه بمصر ، وهو واليها . ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين : فيها مات عبد الله بن سلام رضي الله عنه . ثم دخلت سنة أربع وأربعين : فماتت فيها أم حبيبة بنت أبي سفيان ، أم المؤمنين رضي الله عنهما . ثم دخلت سنة خمس وأربعين : فماتت فيها حفصة بنت عمر ، أم المؤمنين ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة ست وأربعين : فمات فيها محمد بن مسلمة ، رضي الله عنه . ثم دخلت سنة سبع وأربعين : فمات فيها قيس بن عاصم رضي الله عنه . حوادث سنة تسع وأربعين : ثم دخلت سنة تسع وأربعين : وفيها : كانت غزوة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الروم ، حتى بلغ قسطنطينية . ومعه ابن عباس ، وابن عمر، وابن الزبير، وأبو أيوب الأنصاري . وفيها : مات الحسن بن علي ، وجويرية بنت الحارث أم المؤمنين ، وصفية بنت حيي أم المؤمنين ، وجبير بن مطعم ، وحسان بن ثابت ، ودحية بن خليفة الكلبي ، وكعب بن مالك ، وعمرو بن أمية الضمري ، وعقيل بن أبي طالب ، وعتبان بن مالك ، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين . ثم دخلت سنة إحدى وخمسين : فمات فيها سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وجرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين : فمات فيها أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري غازياً ، ودفن عند سور القسطنطينية . وكان النصارى يستسقون بقبره رضي الله عنه، وبرأه الله من عقائد النصارى . ومات بها أبو موسى الأشعري ، وعمران بن حصين رضي الله عنهما . ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين : فمات فيها صعصعة بن ناجية الصحابي ، الذي يقال : إنه أحيا أربعمائة موؤدة في الجاهلية ، وزياد بن سمية رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة أربع وخمسين : فماتت فيها سودة بنت زمعة أم المؤمنين ، وأبو قتادة الأنصاري ، وحكيم بن حزام رضي الله عنهم . ثم دخلت سنة خمس وخمسين : فمات فيها سعد بن مالك ، والأرقم بن أبي الأرقم -الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام مختبئاً في داره- وسحبان وائل ، البليغ الذي يضرب به المثل في الفصاحة . ثم دخلت سنة ست وخمسين : فدعا فيها معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد . ثم دخلت سنة سبع وخمسين : فمات فيها عثمان بن حنيف رضي الله عنه . ثم دخلت سنة ثمان وخمسين : فمات فيها سعيد بن العاص -أحد الأجواد السبعة- وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عباس -أحد الأجواد السبعة رضي الله عنهم . حوادث سنة ستين : ثم دخلت سنة ستين : فمات فيها معاوية بن أبي سفيان ، وصح أن أبا هريرة مات قبلها بسنة ، وأنه كان يقول :اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين، وإمارة الصبيان . واستخلف معاوية ابنه يزيد ، فجرت الفتنة الثانية . ولم تزل الفتنة قائمة سنين ، حتى اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان . فأول ما جرى في أيام يزيد : مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما وأهل بيته في يوم عاشوراء سنة إحدى وستين . ثم بعدها : جرت وقعة الحرة العظيمة بالمدينة ، قتلوا أهلها ، وأباحوها ثلاثة أيام . ثم بعد ذلك : توجهوا إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، فحاصروها ، فلم يزالوا محاصريها حتى بلغهم موت يزيد، فلما مات يزيد افترق الناس افتراقاً كثيراً ، كما قيل : وتشعبوا شعباً بكل جزيرة فيها أمير المؤمنين ومنبر وثبت مروان بالشام ، وخرج المختار بن أبي عبيد الثقفي المبيد المفسد بالعراق ، ونجدة بن عويمر باليمامة . والمشهور بأمير المؤمنين في هذه السنين : عبد الله بن الزبير بمكة ، وبايع له أكثر الناس . فلما مات مروان تولى بعده ابنه عبد الملك سنة خمس وستين . ولما تولى تصدى لحرب عبد الله بن الزبير ، فجرى بينهما ما يطول ذكره ، وآخره : أنه وجه لقتال ابن الزبير جيشاً عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي ، فحصره بمكة، ثم قتله رضي الله عنه ، سنة ثلاث وسبعين . فاجتمع الناس بعده على عبد الملك بن مروان ، فلم يزل والياً كذلك إلى سنة ست وثمانين ، فمات واستخلف ولده الوليد . فبقي في الخلافة سبع سنين وأشهراً . وفي أيامه مات أنس بن مالك رضي الله عنه ، والحجاج بن يوسف . ثم ولي بعده أخوه سليمان بن عبد الملك . فبقي سنتين وأشهراً . واستخلف عمر بن عبد العزيز ، فبايعه الناس سنة تسع وتسعين في صفر . فسار رحمه الله سيرة الخلفاء الراشدين . وأحيا السنن وأمات البدع . وبقي في الخلافة رشيداً مهدياً سنتين وأشهراً ، ومات في رجب سنة إحدى ومائة . ومات في أيامه ابنه عبد الملك ، وكان يشبه أباه رحمهما الله . ثم تولى بعده : يزيد بن عبد الملك ، بقي أربع سنين وشهراً واحداً . وتوفي سنة خمس ومائة . ثم تولى بعده : أخوه هشام بن عبد الملك ، فبقي تسع عشرة سنة وأشهراً. وفي خلافته ظهر الجعد بن درهم ، أول من قال بخلق القرآن ، وأظهره في دمشق . فطلبه بنو أميه ، فهرب منهم إلى الكوفة . فلما أظهر قوله هناك : أخذه خالد بن عبد الله القسري ، قتله يوم عيد الأضحى من سنة أربع وعشرين ومائة . خطب الناس ، فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم . فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم : أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما قال الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر . وتوفي هشام بن عبد الملك سنة خمس وعشرين ومائة . ثم تولى بعده : ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، فبقي سنة أو أقل أو أكثر ، ثم قتل سنة ست وعشرين ومائة . ثم تولى بعده : ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك ، فبقي خمسة أشهر . وتوفي في ذي القعدة -أو في أول ذي الحجة- من سنة ست وعشرين ومائة . وبعده انقضت الخلافة التامة . ولم تجتمع الأمة بعده على إمام واحد إلى اليوم . وهو آخر الخلفاء الاثني عشر ، الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : :"لا يزال أمر هذه الأمة عزيزاً ، ينصرون على من ناوأهم إلى اثني عشر خليفة ، كلهم من قريش" . وفي لفظ لمسلم : "إن هذا الأمر لا ينقض ، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" . وعند البزار : "لا يزال أمر أمتي قائماً ، حتى يمضي اثنا عشر خليفة" . وفي لفظ : "لا يزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة" . وعند أبي داود : "قالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج" . فلما مات يزيد : طلب الأمر أخوه إبراهيم ، فبايعه أخوه ، ولم ينتظم له أمر . فطلب الأمر مروان بن محمد بن مروان -الذي يقال له مروان الحمار- فبايعه بعض الناس في صفر سنة سبع وعشرين ومائة . ولم يزل في حروب وتخبيط إلى آخر سنة اثنتي وثلاثين ومائة -يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة- فقتل في كنيسة أبي صير . وكانت مدة خلافته : خمس سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام ، وهو آخر من ولي الخلافة من بني أمية . |
دولة بني العباس :
ثم قامت دولة بني العباس . وفي هذه السنين : وقعت الفتنة الثالثة التي لم يرفع الخرق بعدها إلى اليوم . فأول من قام من بني العباس : السفاح ، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، فبقي نحو ست سنين ثم مات . وعهد إلى أخيه المعروف بالمنصور ، فبقي فيها اثنتين وعشرين سنة . ثم توفي وعهد إلى ابنه المعروف بالمهدي ، فبقي نحو عشر سنين ، ثم مات . وقام بعده ابنه موسى ، المسمى بالهادي ، فبقي سنة وشهراً ، ثم توفي . وقام بعده أخوه هارون ، المسمى بالرشيد ، فبقي أكثر من عشرين سنة ، ثم مات . وقام بعده ابنه المسمى بالأمين -وأمه زبيدة بنت جعفر بن المنصور- وبقي نحو ثلاث سنين ، ثم قتله عسكر أخيه المأمون . وقام بعده : المأمون ، وهو الذي جر على المسلمين كثيراً من الفتن في العقائد . فترجم كتب اليونان في الفلسفة . وأظهر القول بخلق القرآن وألزم الناس القول به وامتحن الإمام أحمد وغيره من الأئمة رحمهم الله في ذلك . |
بدء تأليف الكتب :
وفي أيام عمر بن عبد العزيز : كتب إلى أبي بكر بن حزم بالمدينة : أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعه ، فإني خفت دروس العلم ، وذهاب العلماء . وفي أيام المنصور : شرع العلماء في تصنيف كتب التفسير والحديث ، فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك بن أنس بالمدينة ، وابن عمرو الأوزاعي بالشام ، وحماد بن سلمة بالبصرة ، وسفيان الثوري بالكوفة ، ومعمر بن المثنى باليمن . وصنف محمد بن إسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة النعمان بن ثابت الرأي . وقبل هذا : كان الأئمة يتكلمون من حفظهم ، ويروون العلم صحفاً غير مرتبة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الشريف يوم الأربعاء ، لإحدى عشرة خلت من شهر رجب سنة 1309 على يد الفقير إلى ربه . سليمان بن سحمان ، غفر الله له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات . |
=
= = ((( أعلام النبوة ))) = = = = |
في مقدمة الأدلة
و الأدلة ما أوصلت إلى العلوم بالمدلول عليه ، و الدليل معلوم بالعقل ، و الدليل عليه معلوم بالدليل ، فيكون العقل موصلاً إلى الدليل و ليس بدليل ، لأن العقل أصل كل معلوم من دليل و مدلول عليه ، و لذلك سمي أم العلم ، فصار العقل مستدلاً و إن لم يكن دليلاً . و العلم الحادث عنه ما تميز به الحق من الباطل ، و الصحيح من الفاسد ، و الممكن من الممتنع . و هو على ضربين : علم اضطرار و علم اكتساب . علم الاضطرار : فأما علم الاضطرار فهو ما أدرك ببداهة العقول . وهو نوعان : حسن ظاهر و خبر متواتر ، و علم الحس متأخر عن العقل ، و علم الخبر متقدم عليه ، و لا يفتقر علم الاضطرار إلى نظر و استدلال لإدراكه ببديهة العقل ، و يشترك فيه الخاصة و العامة ، و لا يتوجه إليه جحد و لا تحسن المطالبة فيه بدليل لأنه غاية لتناهي النظر . علم الاكتساب : و أما علم الاكتساب فطريقة النظر و الاستدلال : لأنه غير مدرك ببديهة العقل فصح أن يتوجه إليه الاعتراض فيه بطلب الدليل عليه ، فلذلك لم يتوصل إليه إلا بالنظر و الاستدلال و هو على ضربين : أحدهما : ما كان من قضايا العقول . و الثاني : ما كان من أحكام السمع . قضايا العقول : فأما قضايا العقول فضربان أحدهما : ما علم استدلالاً بضرورة العقل ، و الثاني : ماعلم استدلالاً بدليل العقل ، فأما المعلوم بضرورة العقل فهو ما لا يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كالتوحيد فيوجب العلم الضروري و إن كان عن استدلال للوصول إليه بضرورة العقل ، و أما المعلوم بدليل العقل فهو ما يجوز أن يكون على خلاف ما هو به كأحد الأنبياء إذا ادعى النبوة ، فيوجب علم الاستدلال و لا يوجب علم الاضطرار لحدوثه عن دليل العقل لا عن ضرورته . ثبوت النبوات : و اختلف في أصل النبوات على العموم هل يعلم بضرورة العقل أو بدليله على اختلافهم في التعبد بالشرائع هل اقترن بالعقل أو بعقبه فذهب من جعله مقترناً بالعقل إلى إثبات عموم النبوات بضرورة العقل . و ذهب من جعله متأخراً عن العقل إلى إثباتها بدليل العقل . و ذهب أصحاب الإلهام إلى إسقاط الاستدلال بقضايا العقول و جعلوا إثبات المعارف بالإلهام أصلاً يغني عن أصل و هذا فاسد بقول الله تعالى : " فاعتبروا يا أولي الأبصار " فجعله بالاعتبار مدركاً دون الإلهام ، يقال لمن أثبت المعارف بالإلهام لم قلت بالإلهام فإنه استدلال ناقص قال قلته بالإلهام قيل له انفصل عمن أسقط الإلهام بالإلهام و عمن قال في الإلهام بغير إلهامك في جميع أقوالك فلا تجد فصلاً و كفى في ذلك فساداً .فإذا ثبت أن كلا الضربين مدرك بقضية العقل فيما علم بضرورته من التوحيد أو بدليله من النبوة صار بعد العلم به واجباً . وجوب الإيمان بالأنبياء : و اختلف في وجوبه هل و جب بما صار معلوماً به من قضية العقل أو بالسمع ؟ فذهب قوم إلى وجوب التوحيد و النبوة بالعقل كما علم بالعقل ، و يكون التوحيد و عموم النبوات قبل السمع فرضاً . و ذهب آخرون إلى وجوبهما بالسمع و إن علما بالعقل ، لأن الوجوب تعبد لا يثبت إلا بالسمع ، و اختلف من قال بهذا في وجوب ورود السمع به فأوجبه بعضهم و لم يوجبه آخرون منهم ، و أسقطوا فرض التوحيد عن العقلاء إذا لم يرد سمع بإيجابه . و ذهب آخرون إلى أن ما علم بضرورة العقل من التوحيد واجب بالعقل و ما علم بدليل العقل من النبوة واجب بالسمع لأن التوحيد أصل و النبوة فرع والاجتهاد فيهما فرض على أعيان ذوي العقول إذا اقترن بكمال عقله قوة الفطنة و صحة الروية ، فيستغني بكمال عقله و صحة رويته عن تنبيه ذوي العقول الوافرة ليصل باجتهاد عقله من اضطرار أو استدلال إلى قضايا العقول ليصير عالماً بها و مستغنياً عن عقل غيره فيها . و إن ضعفت فطنته و قلت رويته لزمه أن يتنبه بذوي العقول على الوصول إليها بعقله لا بعقولهم فيعلمها بالتنبيه كما علمها غيره بالنظر ، و إن لم يصل إليها بالتنبيه فليس بكامل العقل ، و يصير تبعاً لذوي العقول لأن عدم الموجب دال على سقوط الموجب . ما هو العقل : و العقل : هو ما أفاد العلم بموجباته ، و قيل : بل هو قوة التمييز بين الحق و الباطل ، و قيل : هو العلم بخفيات الأمور التي لا يوصل إليها إلا بالاستدلال و النظر ، و هو ضربان : غريزي هو أصل ، و مكتسي هو فرع . فأما الغريزي فهو الذي يتعلق به التكليف و يلزم به التعبد ، و أما المكتسب فهو الذي يؤدي إلى صحة الاجتهاد و قوة النظر ، و يمتنع أن يتجرد المكتسب عن الغريزي و لا يمتنع أن يتجرد الغريزي عن المكتسب لأن الغريزي أصل يصح قيامه بذاته و المكتسب فرع لا يصح قيامه إلا بأصله . و من الناس من امتنع من تسمية المكتسب عقلاً لأنه من نتائجه ، و لا اعتبار بالنزاع في التسمية إذا كان المعنى مسلماً . الإيمان بالسمع : و أما أحكام السمع فمأخوذة عمن يلزم طاعته من الرسل ، و العقل مشروط في التزامها ، و إن لم يكن السمع مشروطاً في قضايا العقول و ما يتضمنه السمع نوعان : تعبد و إنذار . فالتعبد الأوامر و النواهي و الإنذار الوعد و الوعيد ، فإن حمع الرسول بين التعبد و الإنذار ، فهو الشرع الكامل المغني عن غيره ، و إن انفرد بالتعبد دون الإنذار فإن تقدمه إنذار غيره كمل الشرع بتعبده و إنذاره من تقدمه ، و إن لم يتقدمه إنذار من غيره إما في مبادئ النبوات أو في من لم تبلغهم دعوة الأنبياء . هل تقتضي العقول الثواب ؟ فقد اختلف في قضايا العقول هل تقتضي الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية ؟ فذهب فريق إلى اقتضائهما لذلك فعلى هذا يكون شرعاً كمل بتعبد الرسول و إنذار العقول . و ذهب فريق إلى أن قضايا العقول لا تقتضي ثواباً و لا عقاباً فعلى هذا اختلف في التعبد هل يكون مستحقاً على ما تقدم من نعم الله تعالى على خلقه أو لجزاء مستقبل ؟ فذهب فريق إلى استحقاقه بسابق النعمة ، فإن وعد الله تعالى ثواباً عليه كان تفضلاً منه يستحق بالوعد دون التعبد ، فعلى هذا يكون التعبد فرضاً مستحقاً يقتضي تركه عقاباً و إن لم يقتض فعله ثواباً . و ذهب آخرون إلى استحقاقه بما يقابله من الجزاء بالثواب عليه ، و ما تقدم من النعمة تفضل منه ، فعلى هذا يكون التزام التعبد مستحباً ، و ليس بمستحق ، فلا يلزم على تركه عقاب كما لم يستحق على فعله ثواب لأنه لم يقترن به وعد بثواب يوجب التزام التعبد . و إن انفرد الرسول بالإنذار دون التعبد فالإنذار لا يكون إلا على فعل و إلا كان عبثاً لا يصدر عن كليم ، فإن كان إنذاره على شرع تقدمه تضمن إنذاره إثبات ذلك الشرع و كان هذا المنذر من أمة ذلك المتعبد ، و إن كان المتعبد قد أنذر كان هذا الإنذار تأكيداً و لم يحتج هذا المنذر إلى إظهار معجز ، و إن لم يكن المتعبد قد أنذر تكامل شرع المتعبد بإنذار المتأخر و تكامل إنذار المتأخر بتعبد المتقدم و احتاج هذا المنذر إلى إظهار معجز إلى إنذاره موجب لكمال الشرع ، و إن أنذر المتأخر على فعل الخير و اجتناب الشر خرج عن حكم الشرع إلى الوعظ و الزجر بأمر إلهي يستحق له بسط اليد في الإنكار و استيفاء ما تضمنه الإنذار . |
في معرفة الإله المعبود
لا يصح التعبد ببعثة الرسل إلا بعد معرفة المعبود المرسل ليعلم أنهم رسل مطاع معبود فيطاعوا لفرض طاعة المعبود ، و المعبود هو الله عز و جل المنعم على عباده بما كلفهم من عبادته و افترض عليهم من طاعته بعد النعمة عليهم بخلق ذواتهم ، و الإرشاد إلى مصالحهم ، و استودعهم علم اضطرار يدرك ببداية العقول ، و علم اكتساب يدرك بالفكر و النظر . و لما كانوا محجوبين عن ذاته لم يدركوه ببداية الحواس اضطراراً ، و قد ظهر من إظهار آثار صنعته و إتقان حكمته ما يوصل إلى معرفة ذاته و صفاته اكتساباً لإدراكها بالاعتبار و النظر . و لو شاء لخلق ما يدرك ببداية الحواس ، لكن معرفته بالاستدلال أبلغ في الحكمة لظهور التباين في الرتبة فلذلك ما امتنع الوصول إلى معرفته اضطراراً و وصل إليها استدلالاً و اكتساباً يخرج عن بداية العقول إلى استدلال معقول . و الذي يؤدي إلى معرفته جل جلاله ثلاثة فصول : أحدهما : أن العالم محدث و ليس بقديم . و الثاني : ان للعالم محدثاً قديماً . و الثالث : أنه واحد لا شريك له . حدوث العالم : فأما الفصل الأول في حدوث العالم ، فالمحدث ما كان له أول و القديم ما لا أول له . و الدليل على حدوث العالم شيئان : أحدهما : أن العالم جواهر ، و أجسام لا تنفك عن أعراض محدثة من اجتماع و افتراق و حركة و سكون ، و إنما كانت الأعراض محدثة لأمرين : أحدهما : أنه لا يصح قيامها بذواتها ، و الثاني : لوجودها بعد عدمها و زوالها بعد وجودها ، و ما لم ينفك عن الأعراض المحدثة لم يسبقها ، لأنه لو سبقها لكان لا مجتمعاً و لا مفترقاً و لا متحركاً و لا ساكناً و هذا مستحيل فاستحال سبقه و ما لم يسبق المحدث فهو محدث . فإن قيل : فليس يستنكر أن تكون الحوادث الماضية لا أول لها فلم يلزم حدوث العالم . قيل : إذا كان لكل واحد من الحوادث أول استحالة أن لا يكون لجميعها أول لأنها ليست غير آحادها فصارت جميعها محدثة لأنها ذوات أوائل محدثة . و الدليل الثاني على حدوث العالم : وجوده محدوداً متناهي الأجزاء و الأبعاد ، و ما تناهت أجزاؤه و أمكن توهم الزيادة عليه و النقصان منه كان تقديره على ما هو به دليلاً على أن غيره قدره ، إذ ليس كون ذاته على صفة بأولى من كونه على غيرها لولا تدبر غيره لها . فإن قيل : فلم لا كانت طينته قديمة و أعراض تركيبه و تصويره حادثة كأفعال الله تعالى حادثة عن ذاته القديمة . قيل : لأن حدوث أعراضه فيه وهو لا ينفك منها فصار محدثاً بها ، و أفعال الله تعالى حادثة في غيره فلم يمنع حدوثها من قدمه ، و لو حدثت فيه لمنعت من قدمه . محدث العالم قديم : و أما الفصل الثاني ، أن للعالم محدثاً قديماً فالدليل على أن له محدثاً قديماً شيئان أحدهما : أنه لما استحال أن يكون للعالم محدثأ لذاته لإفضائه إلى وجوده قبل حدثه دل على أن محدثه غيره . و الثاني : أن وجود ما لم يكن يوجب أن يقتضي موجداً كما اقتضى المبني بانياً و المصنوع صانعاً و الدليل على قدم محدثه شيئان أحدهما : أنه لا أول له و ما لا أول له قديم . و الثاني : أنه لو لم يكن قديماً لاحتاج محدثه إلى محدث و لا تنتهي إلى ما لا غاية له فامتنع و ثبت قدمه أنه لم يزل و لا يزال فلم يكن له أول و لا يكون له آخر و إذا كان محدثه قديماً وجب أن يكون قادراً مريداً . و الدليل على قدرته أنه يصح نه أن يفعل و لا يفعل مع انتفاء الموانع و قد فعل فدل وجود الفعل منه على قدرته عليه و الدليل على أنه مريد أنه لما وجد منه الفعل و هو غير ساه و لا مكره و لا عابث لانتفاء السهو عنه بعلمه و انتفاء الإكراه عنه بحكمته دل على إرادته كما كانت كتابة الكاتب مع انتفاء هذه العوارض دليلاً على إرادة كتابته فصار إحداثه للعالم دليلاً على قدمه و حدوث أفعاله و قدمه يوجب أن يكون صفات ذاته قديمة لقدمه و حدوث أفعاله يوجب أن تكون صفات أفعاله محدثة . المحدث واحد لا شريك له : و أما الفصل الثالث : أنه واحد لا شريك له و لا مثل . فالدليل عليه شيئان : أحدهما : أن عموم قدرته شامل لجميع المحدثات ، فوجب أن يكون محدث بعضها محدثاً لجميعها ، إذ ليس بعضها بأخص بقدرته من بعض فأوجب تكافؤ الأمرين عموم الجميع . و الثاني : أنه لو كان معه غيره لم يخل أن يكون مماثلاً أو مخالفاً ، فإن خالفه بطل أن يكون قادراً ، و إن ماثله استحال وجود إحداث و احد من محدثين كما استحال و جود حركة واحدة من متحركين . زعم من أشرك : و ذهب الثنوية من المتباينة إلى إثبات قديمين هما عندهم : نور و ظلمة يحدث الخير عن النور و الشر عن الظلمة ، و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن النور و الظلمة لا ينفكان أن يكونا جسماً أو جوهراً أو عرضاً و جميعها محدثة ، فدل على حدوثهما . و الثاني : أن الظلمة ليست بذات و إنما هي فقد النور عما يقبل النور ، و لهذا إذا فقدنا النور في الهواء تصورناه مظلماً ، فلم يجز أن يرصف بقدم و لا يضاف إليها فعل . و ذهب المجوس إلى أن الله تعالى و الشيطان فاعلان ، فالله تعالى فاعل الخير و خالق الحيوان النافع . و الشيطان فاعل الشر و خالق الحيوان الضار . قالوا : لأن فاعل الشر شرير ، و يتعالى الله عن هذه الصفة . و جعلوا الله تعالى جسماً و إن كان قديماً . و اختلفوا في قدم الشيطان فقال به بعضهم ، و امتنع من قدمه زرادشت و أكثرهم . و اختلفوا في علة حدوثه ، فزعم زرادشت أن الله تعالى استوحش ففكر فكرة رديئة فتولد منها أهرمن و هو إبليس . و قال غيره بل شك فتولد الشيطان من شكه . و قال آخرون بل حدث عفن فتولد الشيطان من عفنه ، و هذه أقاويل تدفعها العقول . أما جعلهم الله تعالى جسماً : فدليلنا على حدوث الأجسام يمنع أن يكون الله تعالى مع قدمه جسماً : و دليلنا على الثنوية يمنع أن يكون الشيطان معه ثانياً . و إثبات قدرته يمنع أن يكون مغلوباً . و علمه يمنع أن يكون شاكاً أو مفكراً . و انتفاء الحزن عنه يمنع أن يكون مستوحشاً ، و امتناع الفساد عليه يمنع أن يكون عفناً ، و قولهم : إن فاعل الشر شرير قيل خروجه عن قدرته مثبت لعجزه فوجب أن يدخل في عموم قدرته . دين النصارى : فأما النصارى فقد كانوا قبل أن تنصر قسطنطين الملك على دين صحيح في توحيد الله تعالى و نبوة عيسى عليه السلام ، ثم اختلفوا في عيسى بعد تنصر قسطنطين ، و هو أول من تنصر من ملوك الروم ، فقال أوائل النسطورية إن عيسى هو الله ، و قال أوائل اليعاقبة إنه ابن الله ، و قال أوائل الملكانية إن الآلهة ثلاثة أحدهم عيسى ثم عدل أواخرهم عن التصريح بهذا القول المستنكر حين استنكرته النفوس و دفعته العقول فقالوا : إن الله تعالى جوهر واحد هو ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب و أقنوم الابن و أقنوم روح القدس ، و إنها واحدة في الجوهرية و ان أقنوم الأب الذات و أقنوم الابن هو الكلمة و أقنوم روح القدس هو الحياة . الأقانيم عند النصارى : و اختلفوا في الأقانيم . فقال بعضهم : هي خواص ، و قال بعضهم هي أشخاص . و قال بعضهم : هي صفات ، و قالوا : إن الكلمة اتحدت بعيسى . و اختلفوا في الاتحاد . فقال النسطوريه : معنى الاتحاد أن الكلمة ظهرت حتى جعلته هيكلاً و أن المسيح جوهران أقنومان أحدهما إآلهي و الآخر إنساني ، فلذلك صح منه الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام و إحياء الموتى ، و الأفعال الإنسانية من الأكل و الشرب . و قال اليعاقبة : الاتحاد هو الممازجة حتى صار منها شيء ثالث نزل من السماء و تجسد من روح القدس و صار إنساناً هو المسيح ، و هو جوهر من جوهرين ، و أقنوم من أقنومين ، جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي . و قال الملكانية المسيح جوهران : أقنوم واحد و ليس لهذه المذاهب شبهة تقبلهاالعقول و فسادها ظاهر في المعقول . الرد على النصارى : أما قولهم : إن الله تعالى جوهر فقد دللنا على حدوث الجواهر فاستحال أن يكون القديم جوهراً . و أما قولهم : إنه ثلاثة أقانيم فإن جعلوها أشخاصاً ، و قالوا بالتثليث و امتنعوا من التوحيد ، و قد دللنا على أن القديم واحد . و إن جعلوا الأقانيم خواص و صفات لذات واحدة فقد جعلوه أباً و ابناً من جوهر أبيه ، فشركوا بينهما في الجوهر الإآلهي و فضلوه على الأب بالجوهر الإنساني ، فلم يكن مع اشتراكهما في الجوهر الإآلهي أن يتولد من الأب بأولى أن يتولد منه الأب مع تفضيله بالجوهر الإنساني ، وكيف يكون قديماً ما تولد عن قديم ؟ و إنما ظهرت منه الأفعال الإآلهية لأنها من قبل الله تعالى إظهاراً لمعجزته ، و ليست من فعله : كفلق البحر لموسى عليه السلام و ليس ذلك من إآلهية موسى . و قولهم جوهر لاهوتي و جوهر ناسوتي فناسوت المسيح كناسوت غيره من الأنبياء و قد زال ناسوته فبطل لاهوته . معنى الوحدانية : فإذا ثبت أن الله تعالى واحد قديم فقد اختلف في معنى وحدانيته ، فقالت طائفة : المراد بأنه واحد : أن جميع المحدثات منسوبة إلى قدرة واحدة أحدث القادر بها جميع المحدثات . و قالت طائفة أخرى : المراد به نفي القسمة عن ذاته ، و استحال التبغض و التجزئة في صفته . و قال الجمهور : ـ و هو المذهب المشهور ـ : إنه واحد الذات قديم الصفات ، تفرد بالقدم عن شريك مماثل ، و اختص بالقدرة عن فاعل معادل ، لا شبه لذاته تنتفي عنه الحوادث و الأعراض و لا تناله المنافع و المضار ، ولا ينعت بكل و لا بعض ، و لا يوصف بمكان يحل فيه أو يخلو منه ، لحدوث الأمكنة استحالة التجزئة : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " كما وصف نفسه في كتابه و دلت عليه آثار صنعته و إتقان حكمته . و قد سئل علي بن أبي طالب كرم الله تعالى و جهه عن العدل و التوحيد فقال : [ التوحيد أن لا تتوهمه و العدل أن لا تتهمه ] ففصح بما بهر إيجازه و قهر إعجازه . و قد لحظ دلائل التوحيد من السعداء من قال : أيا عجباً كيف يعصي الإله أم كيف يجحده جاحد و في كل شيء له شاهد دليل على أنه واحد |
الباب الثالث ـ في صحة التكليف
معنى التكليف : التكليف هو إلزام ما ورد به الشرع تعبداً و هو نوعان : أحدهما : ما تعلق بحقه من أمر بطاعة و نهي عن معصية . و الثاني : ما تعلق بحقوق عباده من تقدير الحقوق و تقرير العقود ليكونوا مدبرين بشرع مسموع و منقادين لدين متبوع ، فلا تختلف فيه الآراء و لا تتبع فيه الأهواء ، و ليعلموا به ابتداء النشأة و انتهاء الرجعة فتصلح به سرائرهم الباطنة له ، و تخشع له قلوبهم القاسية ، و تجتمع به كلمتهم المتفرقة ، و تتفق عليه أحوالهم المختلفة ، و يسقط به تنازعهم في الحقوق المتجاذبة و يكونوا على رغب في الثواب يبعثهم على الخير ، و رهب من العقاب يكفهم عن الشر . و هذه أمور لا يصلح الخلق إلا عليها ، ولا يوصل بغير الدين المشروع إليها ، إذ ليس في طباع البشر أن يتفقوا على مصالحهم من غير وازع ، ولا يتناصفوا في الحقوق من غير دافع ، لحرصهم على اختلاف المنافع ، وبهذا يفسد ما ذهبت إليه البراهمة من الاقتصار على قضايا العقول و إبطال التعبد بشرائع الرسل . فالتكليف حسن في العقول إذا توجه إلى من علمت طاعته ، و اختلف في حسنه إذا توجه إلى من علمت معصيته ، و استحسنه المعتزلة لأن فيه تعريضاً للثواب ، و لم يستحسنه الأشعرية لأنه بالمعصية معرض للعقاب ، و الأول أشبه بمذهب الفقهاء و إن لم يعرف لهم فيه قول يحكى . التكليف بالأصلح : و اختلف في التكليف هل يكون معتبراً بالأصلح . فالذي عليه أكثر الفقهاء : أنه معتبر بالأصلح لأن المقصود به منفعة العباد . و ذهب فريق من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه موقوف على مشيئة الله تعالى من مصلحة و غيرها لأنه مالك لجميعها . فمن اعتبر الأصلح منع من تكليف ما لايطاق ومن اعتبره بالمشيئة جوز تكليف ما لا يطاق . و يصح تكليف ما لحقت فيه المشقة المحتملة . و اختلف في صحة التكليف فيما لا مشقة فيه فجوزها الفقهاء و منع منها بعض المتكلمين . و قد ورد التعبد بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة و ليس فيه مشقة ، و إذا اعتبر التكليف بالاستطاعة لم يتوجه إلى ما خرج عن الاستطاعة . و اختلف في المانع منه فقال فريق : منع منه العقل لامتناعه فيه . و قال فريق : منع منه الشرع و إن لم يمنع منه العقل بقواه تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " . وجوب التكليف : فإذا تقرر شروط التكليف مع كونه حسناً ، فقد اختلف في وجوبه ، فأوجبه من اعتبر الأصلح و جعله مقترناً بالعقل لأنه من حقوق حكمته ، و لم يوجبه من حمله على الإرادة ، لأن الواجب يقتضي علو الموجب و هذا منتف عن الله تعالى ، و اختلف من قال بهذا في تقدم العقل على الشرع . فقال فريق : يجوز أن يقترن بالعقل ، و يجوز أن يتأخر عنه بحسب الإرادة ، و لا يجوز أن يتقدم على العقل لأن العقل شرط في لزوم التكليف . و قال فريق : بل يجب أن يكون التكليف وارداً بعد كمال العقل و لا يقترن به كما يتقدم عليه لقوله الله تعالى : " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " و هذه صفة متوجهة إليه بعد كمال عقله . التكليف الشرعي : و قد استقر بما قدمناه أن التكليف الشرعي ما تضمنه الأوامر و النواهي في حقوق الله تعالى و حقوق عباده . و المأمور به ضربان : واجب و ندب . فالواجب ما وجب أن يفعل ، والندب ما الأولى أن يفعل . و المنهي عنه ضربان : مكروه و محظور ، فالمحظور ما وجب تركه ، والمكروه ما الأولى تركه . فأما المباح فما استوى فعله و تركه فلا يجب أن يفعل و لا الأولى أن يفعل و لا يجب أن يترك و لا الأولى أن يترك . و اختلف في دخول المباح في التكليف . فذهب بعض أصحاب الشافعي رحمه الله إلى دخوله في التكليف ، و اختلف قائل هذا هل دخل فيه بإذن أو بأمر على وجهين . أحدهما : بإذن ليخرج حكم الندب ، والثاني : بأمر دون أمر الندب كما أن أمر الندب دون أمر الواجب . و ذهب آخرون من أصحاب الشافعي رحمه الله إلى خروجه من التكليف بإذن أو أمر لاختصاص التكليف بما تضمنه ثواب أوعقاب ، و اتفقوا في المباح أنه لا يستحق عليه حمد و لا ذم ، و يخرج عن القبيح ، و اختلفوا في دخوله في الحسن فادخله بعضهم فيه و أخرجه بعضهم منه . التكليف والإرادة : و الأمربالتكليف هو استدعاء الطاعة بالانقياد للفعل ، و اختلفوا في اقتران الإرادة به هل يكون شرطاً في صحته ؟ فذهب الأشعري إلى أن الإرادة غير معتبرة فيه و يجوز أن يأمر بما لا يريده و لا يكون أمراً كالذي يريده ، و ذهب المعتزلة إلى أنه لا يكون أمراً إلا بالإرادة فإن لم تعلم إرادته لم يكن أمراً . و اختلفوا هل تعتبر إرادة الأفراد إرادة المأمور به ، فاعتبر بعضهم إرادة الأمر المنطوق به ، و اعتبر آخرون منهم إرادة الفعل المأمور به . و الذي عليه جمهور الفقهاء أن الأمر دليل على الإرادة و ليست الإرادة شرطاً في صحة الأمر و إن كانت موجودة مع الأمر فيستدل بالأمر على الإرادة و لا يستدل بالإرادة على الأمر . هل صحة الأمر موافقة العقل ؟ و من صحة الأمر أن يكون بما لا يمنع منه العقل ، فإن منه العقل لم يصح الأمر به لخروج التكليف عن محظورات العقول . و اختلف هل يعتبر صحته بحسنه في العقل ؟ فاعتبره فريق و أسقطه فربق ، و إذا لم يكن يستوعب نصوص الشرع قضايا العقول كلها جاز العمل بمقتضى العقل فيها . و اختلف في إلحاقها بأحكام الشرع ، فألحقها فريق بها و جعلها داخلة فيها لأن الشرع لا يخرج عن مقتضاها ، و أخرجها فريق منها وإن جاز العمل بها كالمشروع لأن الشرع مسموع و العقل متبوع . الأمر يكون بالقول : و الأمر يكون بالقول أو ما قام مقام القول إذا عقل منه معنى الأمر ، واختلف فيه متى يكون أمراً . فذهب جمهور الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمراً وقت القول و يتقدم على الفعل . و ذهب شاذ من الفقهاء و المتكلمين إلى أنه يكون أمراً وقت الفعل ، و ما تقدمه من القول إعلام بالأمر و ليس بأمر و هذا فاسد ، لأن الفعل يجب بالأمر فلو لم يكن ما تقدمه أمراً لاحتاج مع الفعل إلى تجديد أمر . أمر الإعلام و أمر الإلزام : و الأمر ضربان : أمر إعلام و أمر إلزام . فأما أمر الإعلام فمختص بالاعتقاد دون الفعل ، ويجب أن يتقدم الأمر على الاعتقاد بزمان واحد و هو وقت العلم به . و أما أمر الإلزام فمتوجه إلى الاعتقاد و الفعل ، فيجمع بين اعتقاد الوجوب و إيجاد الفعل ، و لا يجزئه الاقتصار على أحدهما ، فإن فعله قبل اعتقاد وجوبه لم تجزه و إن اعتقد وجوبه ولم يفعله كان مأخوذاً به . و لا يلزم تجديد الاعتقاد عند فعله إذا كان على ما تقدم من اعتقاده ، لأن الاعتقاد تعبد التزام ، و الفعل تأدية مستحق ويجب أن يتقدم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد . و اختلف في اعتبار تقديمه بزمان التأهب للفعل على مذهبين أحدهما : و هو قول شاذ من الفقهاء يجب تقديمه على الفعل بزمانين أحدهما : زمان الاعتقاد ، و الثاني : زمان التأهب للفعل و به قال من المتكلمين من اعتبر القدرة قبل الفعل . و المذهب الثاني : و هو قول جمهور الفقهاء يعتبر تقديم الأمر على الفعل بزمان الاعتقاد وحده ، و التأهب للفعل شروع فيه فلم يعتبر تقدمه عليه ، وبه قال من المتكلمين من اعتبر القدرة مع الفعل . |
الباب الربع ـ في إثبات النبوات
حاجة الناس إلى الرسل : و الأنبياء هم رسل الله تعالى إلى عباده بأوامر و نواهيه زيادة على ما اقتضته العقول من واجباتها و إلزاماً لما جوزته من مباحاتها لما أراده الله من كرامة العاقل و تشريف أفعاله و استقامة أحواله و انتظام مصالحه ، حين هيأه للحكمة و طبعه على المعرفة ، ليجعله حكيماً و بالعواقب عليماً ، لأن الناس بنظرهم لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ، و لا يشعرون لعواقب أمورهم بغرائزهم ، و لا ينزجرون مع اختلاف أهوائهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين و أخبار القرون الماضين ، فتكون آداب فيهم مستعملة ، و حدوده فيهم متبعة ، و أوامره فيهم ممتثلة ، وو عده و وعيده فيهم زاجراً ، و قصص من غبر من الأمم واعظاً . فإن الأخبار العجيبة إذا طرقت الأسماع ، و المعاني الغريبة إذا أيقظت الأذهان ، استمدتها العقول فزاد علمها ، و صح فهمها ، و أكثر الناس سماعاً و أكثرهم خواطر ، و أكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً و أكثرهم تفكراً أكثرهم علماً و أكثرهم علماً أكثرهم عملاً . فلم يو جد عن بعثه الرسل معدل و لا منهم في انتظام الحق بدل . منكر و النبوات : و أنكر فريق من الأمم نبوات الرسل و هم فيها ثلاثة أصناف : أحدها : ملحدة دهرية يقولون يقدم العالم و تدبير الطبائع ، فهم بإنكار المرسل أجدر أن يقولوا بإنكار الرسل . و الصنف الثاني : براهمة موحدة يقولون بحدوث العالم و يجحدون بعثة الرسل ويبطلون النبوات ، و هم المنسوبون إلى بهر من صاحب مقالتهم . و شذ فريق منهم فادعى أنه آدم أبو البشر ، و منهم من قال هو إبراهيم ، و من قال من هذه الفرقة الشذة منهم أنه أحد هذين أقر بنبوتهما و أنكر نبوة من سواهما . و جمهورهم على خلاف هذه المقالة في اعتزائهم لصاحب مقالتهم و إنكار جميع النبوات عموماً . . و الصنف الثالث : فلاسفة لا يتظاهرون بإبطال النبوات في الظاهر ، و هم مبطلوها في تحقيق قولهم ، لأنهم يقولون : إن العلوم الربانية بعد كمال العلوم الرياضية من الفلسفة و الهندسة ليضعها من كملت رياضته إذا كان عليها مطبوعاً . الرد على منكري النبوات : و اختلف من أبطل النبوات في علة إبطالها فذهب بعضهم إلى أن العلة في إبطالها أن الله تعالى قد أغنى عنها بما دلت عليه العقول من لوازم ما تأتي به الرسل و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع ما دلت عليه العقول جواز أن تأتي به الرسل وجوباً و لو كان العقل موجباً لما امتنع أن تأتي به الرسل وجوباً ، و لو كان العقل موجباً لما امتنع أن تأتي به الرسل تأكيداً كما تترادف دلائل العقول على التوحيد ، و لا يمنع وجود بعضها من و جود غيرها . و الثاني : إنه لا تستغني قضايا العقول عن بعثة الرسل من وجهين : أحدهما : إن قضايا العقول قد تختلف فيما تكافأت فيه أدلتها فانحسم ببعثه الرسل اختلافها . و الثاني : أنه لا مدخل للعقول فيما تأتي به الرسل من الوعد و الوعيد و الجنة و النار و ما يشرعونه من أوصاف التعبد الباعث على الـتأله فلم يغن عن بعثة الرسل . و ذهب آخرون منهم إلى أن العلة في إبطال النبوات أن بعثة الرسل إلى من يعلم من حالتهم أنهم لا يقبلون منهم ما بلغوه إليهم عبث يمنع من حكمة الله تعالى . و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : أنه ليس بعبث أن يكون فيهم من لا يقبله كما لم يكن فيما نصبه الله تعالى من دلائل العقول على توحيده عبثاً و إن كان منهم من لا يستدل به على توحيده كذلك بعثة الرسل . و الثاني : أن وجود من يقبله فهم على هذا التعليل يوجب بعثة الرسل و هم يمنعون إرسالهم إلى من يقبل و من لا يقبل فبطل هذا التعليل . و قال آخرون منهم : بل العلة فيه أن ما جاء به الرسل مختلف ينقض بعضه بعضاً و نسخ المتأخر ما شرعه المتقدم ، و قضايا العقول لا تتناقض فلم يرتفع بما يختلف و يتناقض ، و هذا فاسد من و جهين : أحدهما : أن ماجاء به الرسل ضربان . أحدهما : ما لا يجوز أن يكون إلا على و جه واحد و هو التوحيد و صفات الرب المربوب فلم يختلفوا فيه و أقواله متناصرة عليه . و الضرب الثاني : ما يجوز أن يكون من العبادات على وجه و يجوز أن يكون على خلافه و يجوز أن يكون في وقت و لا يجوز أن يكون في غيره ، و هذا النوع هو الذي اختلفت فيه الرسل لاختلاف أوقاتهم : إما بحسب الأصلح و إما بحسب الإرادة ، و هذا في قضايا العقول جائز . و الوجه الثاني : أن قضايا العقول قد تختلف فيها العقلاء و لا يمنع ذلك أن يكون العقل دليلاً ، كذلك ما اختلف فيه الرسل لا يمنع أن يكون حجة . و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات أنه لا سبيل إلى العلم بصحتها لغيبها ، و أن ظهور ما ليس في الطباع من معجزاتهم ممتنع الطباع الدافعة لها ، فهذا فاسد من وجهين . أحدهما : أن المعجزات من فعل الله تعالى فيهم فخرجت عن حكم طباعهم . و الثاني : لما تميزوا بخروجهم عن الطباع من الرسالة تميزوا بما يخرج عن عرف الطباع من الإعجاز . و قال آخرون منهم : بل العلة في إبطال النبوات إن ما يظهرونه من المعجز الخارج عن العادة قد يوجد مثله في أهل الشعبذة و المخرقة و أهل النارنجيات و ليس ذلك من دلائل صدقهم فكذلك أحكام المعجزات . و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : ان الشعبذة تظهر لذوي العقول و تندلس على الغر الجهول فخالفت المعجزة التي تذهل لها العقول . و الثاني : أن الشعبذة تستفاد بالتعليم فيتعلمها من ليس يحسنها فيصير مكافئاً لمن أحسنها و يعارضها بمثلها ، و المعجزة مبتكرة لا يتعاطاها غير صاحبها و لا يعارضه أحد بمثلها ، كما انقلبت عصا موسى حية تسعى تلتقف ما أفكه السحرة فخروا له سجداً . إثبات النبوات : و لئن كان في إبطاله هذه الشبهة دليل على إثباتها فيستدل على إثبات النبوات من خمسة أوجه و إن اشتملت تلك الأجوبة على بعضها : أحدها : أن الله تعالى منعم على عباده بما يرشدهم إليه من المصالح ، و لما كان في بعثة الرسل ما لا تدركه العقول كان إرسالهم من عموم المصالح التي تكفل بها . و الثاني : أن فيما تأتي به الرسل من الجزاء بالجنة ثواباً على الرغبة في فعل الخير و بالنار عقاباً يبعث على الرهبة في الكف عن الشر ، صارا سبباً لئتلاف الخلق و تعاطي الحق . و الثالث : إن في غيوب المصالح ما لا يعلم إلا من جهة الرسل فاستفيد بهم ما لم يستفد بالعقل . و الرابع : أن التأله لا يخلص إلا بالدين و الدين لا يصلح إلا بالرسل المبلغين عن الله تعالى ما كلفت . و الخامس : أن العقول ربما استكبرت من موافقة الأكفاء و متابعة النظراء ، فلم يجمعهم عليه إلا طاعة المعبود فيما أداه رسله ، فصارت المصالح بهم أعم ، و الإتقان بهم أتم ، و الشمل بهم أجمع ، و التنازع بهم أمنع . و يجوز إثبات التوحيد و النبوات بدقيق الاستدلال ، كما يجوز بجليه ، فإن ما دق في العقول هو أبلغ في الحكمة . و قد تلوح لابن الرومي هذا المعنى فنظمه في شعره فقال : غموض الحق حين يذب عنه يقلل ناصر الخصم المحق يجل عن الدقيق عقول قوم فيقضي للمجل على المدق كيفية بعثة الرسل : فإذا ثبت جواز النبوات و بعثة الرسل بالعبادات فهم رسل الله تعالى إلى خلقه إما بخطاب مسموع أو بسفارة ملك منزل . و منع قوم من مثبتي النبوات أن تكون نبوتهم عن خطاب أو نزول ملك لانتفاء المخاطبة الجسمانية عنه تعالى ، لأنه ليس بجسم ، و الملائكة من العالم العلوي بسيط لا تهبط ، كما أن العالم السفلي كثيف لا يعلو ، و اختلف من قال بهذا فيما جعلهم به أنبياء . فقال بعضهم : صاروا أنبياء بالإلهام لا بالوحي ، و هذا فاسد من وجهين . أحدهما : أن ما بطل به إلهام المعارف في التوحيد ، كان إبطال المعارف به في النبوة أحق . و الثاني : أن الإلهام خفي غامض يدعيه المحق و المبطل ، فإن ميزوا بينهما طلبت أمارة و إن عدلوا عن الإلهام فذلك دليل يبطل الإلهام . و قال آخرون منهم : إنما صاروا أنبياء لأن لله تعالى في العالم خواص و أسراراً تخالف مجرى الطبائع ، فمن أظفره الله تعالى بها من خلقه استحق بها النبوة و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : خفاؤها فيه غير دليل على صدقه . و الثاني : أنه يكون نبياً عن نفسه لا عن ربه فصار كغيره . و قال آخرون : بل صاروا أنبياء لأن الله تعالى خصهم من كمال العقول بما يتواصلون به إلى حقائق الأمور ، فلا يشتبه عليهم منها ما يشتبه على غيرهم ، فصاروا أنبياء عن عقولهم لا عن ربهم . و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن هذا يقتضي فضل العلم في حقه و لا يقتضيه في حق غيره . و الثاني : أنه إن أخبر عن نفسه لم يكن رسولاً و إن أخبر عن ربه كان كاذباً . و قال آخرون : إنما صاروا أنبياء لأن النور فيهم صفا و نما بالنور الأعظم الإلهي ، الذي تخلص به الأفهام ، و تصح به الأوهام ، حتى ينتقلوا إلى الطباع الروحانية ، و يزول عنهم كدر الطباع البشرية فيخرجوا عن شبح الكائنات بصفاء نورهم و خلاصهم ، و هذا قول الثنوية و هذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنهم دفعوا أسهل الأمرين من بعثة الرسل بأغلظهما من إعطاء نوره ، و أولى أن يدفعوا عن الأغلظ بما دفعوا به عن الأسهل و الثاني : أنهم أثبتوا به ممازجة الباري سبحانه فيما اختص بذاته ، و مخالفة الذات تمنع من ممازجته . الرد على المعترض : و الجواب عما قالوه من امتناع المخاطبة الجسمانية عمن ليس بجسم من وجهين : أحدهما : أنه لا يمنع أن يظهر منه كخطاب الأجسام ، و إن لم يكن جسماً ، كما يظهر منه كأفعال الأجسام ، و إن لم يكن جسماً . و الثاني : أن الله تعالى يجوز أن يودعه خطابه في الأسماع حتى تعيه الأذان ، و تفهمه القلوب بقدرته التي أخفاها عن خلقه . و الجواب عما ذكروه من : أن جرم الملائكة علوي لا ينهبط من وجهين : أحدهما : أنه ليس يمنع ان ينتقل جرم سماوي لطيف إلى جرم أرضى كثيف إما بزيادة أو انقلاب كما يقولون في العقل و النفس إنهما جرمان علويان هبطا إلى الجسم فحلاً فيه . و الثاني : أنهم يقولون بانقلاب الأجرام الطبيعات ، فيقولون : إن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت حرارته ببرودة صار ماء بارداً . و إن الماء المركب من برودة و رطوبة ، إذا ارتفعت برودته بحرارة صار هواء ، و أن الهواء المركب من حرارة و رطوبة إذا ارتفعت رطوبته بيبوسة صار ناراً ، فإذا جاز ذلك عندهم في انقلاب الطبائع ، كان في فعل الله تعالى أجوز و هو عليها أقدر . و لا يمكن أن يدفع أقاويلهم الخارجة عن قوانين الشرع إلا بمثلها . و إن خرج عن حجاج أمثالنا لينقض قولهم بقولهم فلا يتدلس به باطل ، و لا يضل به جهول ، فما يضل عن الدين إلا قادح في أصوله و مزر على أهله . شروط صحة النبوة : فإذا ثبت أن النبوة لا تصلح إلا ممن أرسله الله تعالى بوحيه إليه ، فصحتها إليه معتبرة بثلاثة شروط ، تدل على صدقه و وجوب طاعته . أحدها : أن يكون مدعي النبوة على صفات يجوز أن يكون مؤهلاً لها لصدق لهجته و ظهور فضله و كمال حاله ، فإن اعتوره نقص ، أو ظهر منه كذب ، لم يجز أن يؤهل للنبوة من عدم آلتها و فقد أمانتها . بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بعض أحياء العرب ، يدعوهم إلى الإسلام ، فقالوا يا خالد : صف لنا محمداً ، قال : بإيجاز أم بأطناب . قالوا : بإيجاز قال : هو رسول الله و الرسول على قدر المرسل . و الشرط الثاني : إظهار معجز يدل على صدقه ، و يعجز البشر عن مثله ، لتكون مضاهية للأفعال الإلهية ، ليعلم أنها منه ، فيصبح بها دعوى رسالته لأنه لا يظهرها من كاذب عليه ، و يكون المعجز دليلاً على صدقه ، و صدقه دليلاً على صحة نبوته . و الشرط الثالث : أن يقرن بالمعجز دعوى النبوة ، فإن لم يقترن بالمعجزة دعوى ، لم يصر بظهور المعجزة نبياً ، لأن المعجز يدل على صدق الدعوى ، فكان صفة لها فلم يجز أن تثبت الصفة قبل وجود الموصوف . فإن تقدم ظهور المعجز على دعوى النبوة كان تأسيساً للنبوة ، ككلام عيسى عليه السلام في المهد ، تأسيساً لنبوته فاحتاج مع دعوى النبوة إلى إحداث معجز يقترن بها ، ليدل على صدقه فيها . و إن تقدمت دعوى النبوة على المعجز اكتفى بحدوث المعجز بعدها عن اقترانه بها ، لأن استصحابه للدعوى مقترن بالمعجز ، فإن ظهر المعجز المقترن بالدعوى لبعض الناس دون جميعهم نظر ، فإن كانوا عدداً يتواتر بهم الخبر ، و يستفيض فيهم الأثر ، كان الغائب عنه محجوباً بالمشاهد له في لزوم الإجابة و الانقياد للطاعة ، كما يكون العصر الثاني محجوبا بالعصر الأول ، و إن كان المشاهد للمعجز عدداً لا يستفيض بهم الخبر ، و لا يتواتر بهم الأثر لإمكان تواطئهم على الكذب ، و يتوجه إلى مثلهم الخطأ و الزلل ، كان المعجز حجة عليهم ، و لم يكن حجة على غيرهم ، حتى يشاهدوا من المعجز ما يكونوا محجوبين به ، و سواء كان من جنس الأول أو من غير جنسه ، فإن قصر من شاهد الأول عن عدد التواتر ، و قصر من شاهد الثاني عن عدد التواتر ، لم يثبت حكم التواتر فيهما ، و لا في واحد منهما لجواز الكذب على كل واحد من العددين . |
المعجزات تخرق العادات
و إذا كانت حجج الأنبياء على أممهم ، هي المعجز الدال على صدقهم ، فالمعجز ما خرق عادة البشر من خصال لا تستطاع إلا بقدرة إلهية تدل على أن الله تعالى خصه بها ، تصديقاً على اختصاصه برسالته ، فيصير دليلاً على صدقه في ادعاء نبوته إذا وصل ذلك منه في زمان التكليف . و أما عند قيام الساعة إذا سقطت فيه أحوال التكليف ، فقد يظهر فيه من أشراطها ما يخرق العادة ، فلا يكون معجزاً لمدعي نبوة ، و إنما اعتبر في المعجز خرق العادة ، لأن المعتاد يشمل الصادق و الكاذب ، فاختص غير المعتاد بالصادق دون الكاذب . أنواع المعجزات : و إذا تقرر أن المعجز محدود بما ذكرناه من خرق العادة فقد ينقسم ما خرج عن العادة على عشرة أقسام : أحدها : ما يخرج جنسه عن قدرة البشر ، كاختراع الأجسام و قلب الأعيان و إحياء الموتى ، فقليل هذا و كثير معجز لخروج قليله عن القدرة ، كخروج كثيره . و القسم الثاني : ما يدخل جنسه في قدرة البشر ، لكن يخرج مقداره عن قدرة البشر ، كطي الأرض البعيدة في المدة القريبة ، فيكون معجزاً لخرق العادة . و اختلف المتكلمون في المعجز منه ، فعند بعضهم أن ما خرج عن القدرة منه ، يكون هو المعجز خاصة لاختصاصه بالمعجز ، و عند آخرين منهم إن جميعه يكون معجزاً لاتصاله بما لا يتميز منه . و القسم الثالث : ظهور العلم بما خرج عن معلوم البشر ، كالإخبار بحوادث الغيوب ، فيكون معجزاً بشرطين : أحدهما : أن يتكرر حتى يخرج عن حد الاتفاق . و الثاني أن يتجرد عن سبب يستدل به عليه . و القسم الرابع : ما خرج نوعه عن مقدور البشر ، و إن دخل جنسه في مقدور البشر ، كالقرآن في خروج أسلوبه عن أقسام الكلام ، فيكون معجزاً بخروج نوعه عن القدرة ، فصار جنساً خارجاً عن القدرة ، و يكون العجز مع القدرة على آلته من الكلام أبلغ في المعجز . و القسم الخامس : ما يدخل في أفعال البشر ، و يفضي إلى خروجه عن مقدار البشر ، كالبرء الحادث عن المرض ، و الزرع الحادث عن البذر ، فإن برئ المرض المزمن لوقته ، و استحصد الزرع المتأكل قبل أوانه كان بخرق العادة معجزاً لخروجه عن القدرة . و القسم السادس : عدم القدرة عما كان داخلاً في القدرة ، كإنذار الناطق بعجزه عن الكلام ، و إخبار الكاتب بعجزه عن الكتابة فيكون ذلك معجزاً يختص بالعاجز ، و لا يتعداه ، لأنه على يقين من عجز لنفسه ، و ليس غيره على يقين من عجزه . و القسم السابع : إنطاق حيوان أو حركة جماد ، فإن كان باسدعائه ، أو عن إشارته ، كان معجزاً له ، و إن ظهر بغير استدعاء ، و لا إشارة ، لم يكن معجزاً له و إن خرق العادة ، لأنه ليس اختصاصه به بأولى من اختصاصه بغيره . و كان من نوادر الوقت و حوادثه . و القسم الثامن : إظهار الشيء في غير زمانه ، كإظهار فاكهة الصيف في الشتاء ، و فاكهة الشتاء في الصيف ، فإن كان استبقاؤهما في غير زمانهما ممكناً ، لم يكن معجزاً ، و إن لم يمكن استبقاؤهما ، كان معجزاً سواء بدأ بإظهاره أو طوالب به . و القسم التاسع : انفجار الماء و قطع الماء المنفجر ، إذا لم يظهر بحدوثه أسباب من غيره فهو من معجزاته لخرق العادة به . و القسم العاشر : إشباع العدد الكثير من الطعام اليسير ، و إرواؤهم من الماء القليل ، يكون معجزاً في حقهم ، غير معجز في حق غيرهم لما قدمناه من التعليل . و هذه الأقسام ، و نظائرها الداخلة في حدود الإعجاز متساوية الأحكام في ثبوت الإعجاز ، و تصديق مظهرها على ما ادعاه من النبوة ، و إن تفاوت الإعجاز فيها و تباين ، كما أن دلائل التوحيد قد تختلف في الخفاء و الظهور ، و إن كان في كل منها دليل ، فأما فعل ما يقدر البشر على ما يقاربه ، و إن عجزوا عن مثله فليس بمعجز ، لأن الجنس مقدور عليه ، و إنما الزيادة فضل حذق به ، كالصنائع التي يختلف فيها أهلها فلا يكون لأحذقهم بها معجز يجوز أن يدعي به النبوة . لا تقبل الخوارق ممن يكذب نفسه : فإن قيل : فقد جاء زرادشت و بولص بآيات مبهرة و لم تدل على صدقهما في دعوى النبوة . قيل : لأنهما قد أكذبا أنفسهما ما ادعياه في الله تعالى ، مما يدل على جهلهما به ، لأن بولص يقول إن عيسى إله . و زعم زرادشت أن الله تعالى كان وحده ، و لا شيء معه ، فحين طالت وحدته فكر ، فتولد من فكرته : أهرمن و هو إبليس ، فلما مثل بين عينيه أراد قتله و امتنع منه ، فلما رأى امتناعه وادعه إلى مدته . و سالمه إلى غايته . و من قال بهذا في الله تعالى و لم يعرف ، لم يجز أن يكون رسولاً له ، ثم دعوا إلى القبائح و الأفعال السيئة كما شرع زرادشت الوضوء بالبول ، و غشيان الأمهات ، و عبادة النيران . و كذلك بولص و ماني ، فخذلهم الله تعالى . و لو دعوا إلى محاسن الأخلاق كانت الشبهة بهم أقوى . و الاغترار بهم أكثر . و لكن الله تعالى عصم بالعقول من استرشدها ، و قاد إلى الحق من أيقظه بها . لا يظهر الله المعجز إلا لنبي : و لا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجز . مما يجعله دليلاً على صدقه في غير النبوة ، و إن كان فيه مطيعاً ، لأن النبوة لا يوصل إلى صدقه فيها ، إلا بالمعجز ، لأنه مغيب ، لا يعلم إلا منه فاضطر إلى الإعجاز في صدقه . و غير النبوة من أقواله و أفعاله قد يعلم صدقه فيها بالعيان و المشاهدة و تخرج عن صورة الإعجاز و إن نفذت . و إن تشبه معجزات الأنبياء بغيرها . و أما مدعي الربوبية إذا أظهر آيات باهرة . فقد ذهب قوم إلى أنها قد تكون معجزة بطلت بكذبه . فلم يمتنع لظهور بطلانها أن توجد منه ، و إن لم توجد منه إذا كان كاذباً في ادعاء النبوة لأنه لم يقترن بدعواه ما يبطلها كمدعي الربوبية . و الذي عليه قول الجمهور أنه لا يجوز أن يظهر المعجز على مدعي الربوبية ، كما لا يجوز أن يظهر على مدعي النبوة ، لأن معصيته في ادعاء الربوبية أغلظ ، و إفكه فيها أعظم ، فكان بأن لا تظهر عليه أجدر ، و إذا استوضح ما أظهره مدعي الربوبية من الآيات ، ظهر فسادها ، و بان اختلالها ، فخرجت عن الإعجاز إلى سحر أو شعبذة . ثبوت المعجزات بالأخبار المتواترة : و لما علم الله تعالى أن أكثر عباده لا يشهدون حجج رسله . و لا يحضرون آيات أنبيائه إما لعبد الدار ، أو لتعاقب الأعصار . طبع كل فريق على الأخبار بما عاين . فيعلمه الغائب من الحاضر و يعرفه المتأخر من المعاصر . و قد علم مع اختلاف الهمم أن خبر التواتر إذا انتفت عنه الريب حق لا يعترضه شك ، و صدق لا يشتبه بإفك فصار و روده كالعيان في وقوع العلم به اضطرراً فثبت به الحجة ، و لزم به العلم . و قد قال الطفيل الغنوي مع أعرابية في وقوع العلم بإستفاضة الخبر . ما دلته عليه الفطرة و قاده إليه عليه الطبع فقال : تأوبني هم من الليل منصب و جاء من الأخبار ما لا يكذب تظاهرن حتى لم يكن لي ريبة و لم يك عما أخبروا متعقب ما يجوز لمدعي النبوة : و أما ما يجوز لمدعي النبوة ، فينقسم ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكلمه الله تعالى بغير واسطة . الثاني : أن يخاطبه بواسطة من ملائكته . و الثالث : أن يكون عن رؤيا منام . 1 ـ كلام الله بلا واسطة : فأما القسم الأول إذا كلمه الله تعالى بغير واسطة ، مثل كلامه لموسى عليه السلام ، حين نودي من الشجرة على ما قدمناه في الاختلاف في صفته ، فيعلم اضطراراً أنه من الله تعالى . و فيما وقع به علم الاضطرار في كلامه لأهل العلم قولان : أحدهما : أنه يضطره إلى العلم به . كما يضطر خلقه إلى العلم بسائر المعلومات . فعلى هذا يستدل بمعرفة كلامه على معرفته و يسقط عنه تكليف معرفته . و يجوز أن يكون كلامه من غير جنس كلام البشر للاضطرار إلى معرفة ما تضمنه . و القول الثاني : أن يقترن بكلامه من الآيات ما يدل على أنه منه . فعلى هذا لا يسقط منه تكليف معرفة ، و لا يصح أن يكلمه إلا بكلام البشر لعدم الاضطرار إلى معرفته . 2 ـ كلام الله بواسطة ملك و أما القسم الثاني و هو أن يكون خاطبه بواسطة من ملائكته الذين هم رسله إلى أنبيائه ، فعلى الأنبياء معرفة الله تعالى قبل ملائكته في رسالته ، و طريق علمهم به الاستدلال ، ثم يصير بعد نزول الملائكة بمعجزاتهم الباهرة علم الاضطرار . و على الملائكة إذا نزلوا بالوحي على الرسول إظهار معجزاتهم له كما يلزم الرسول إظهار معجزته لأمته . روي أن جبريل عليه السلام لما تصدي لرسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة في الوادي . قال له قل يا محمد للشجرة أقبلي ، فقال لها ذلك . فأقبلت . و قال له : قل لها : أدبري فقال لها ذلك فأدبرت فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم حسبي . يعني في العلم بصدقك فيما أتيتني به عن ربي . فتستدل الرسل بالمعجزات على تصديق الملائكة بالوحي ، و تستدل الأمم بمعجزات الأنبياء على تصديقهم بالرسالة ، و يكون أخطب الملك لفظاً إن كان قرآناً ، أو ما قام مقام اللفظ إن كان وحياً ، و لا يجوز أن يؤدي الملك إلى الرسول ما تحمله عن ربه إلا بلسان الرسول كما لا يؤدي الرسول إلى قومه إلا بلسانهم . و يكون الملك واسطة بين الرسول و بين ربه ، و الرسول واسطة بين الملك و بين قومه . و ما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان : قرآن و وحي . فأما القرآن فيلزم الملك أن يؤديه إلى الرسول بصيغة لفظه . و ليس للملك و لا للرسول أن يعدل بلفظه إلى غيره ، و يكون ما تضمنه من الخطاب المنزل متوجهاً إلى الرسول و إلى أمته . إذا تضمن الوحي تكليفاً : و أما الوحي إذا تضمن تكليفاً بأمر أو نهى فصربان : أحدهما : أن يكون نصاً غير محتمل ، و صريحاً غير متأول . فهذا يعلمه الرسول من الملك بنفس الخطاب ، و تعلمه الأمة من الرسول بالبلاغ من غير نظر و لا استدلال ، و ليس للملك أو للرسول أن يعدل بالنص إلى إجمال أو احتمال له . و الضرب الثاني : أن يكون من المجمل أو المحتمل لمعان مختلفة فهذا يعلم المراد به من دليل يقترن بالخطاب . و دليله ضربان : أحدهما عقل المستمع و الثاني : توقيف المبلغ . فأما ما عقل دليله ببديهة العقل فمحمول على مقتضى العقل ، و يكفي فيه تبليغ الخطاب ، و أما ما دليله التوقيف الذي لا مدخل فيه لبداية العقول كالعبادات فمحمول على التوقيف من الله تعالى إلى ملائكته ، و من الملائكة إلى الرسول ، و من الرسول إلى أمته . فأما معرفة الملك من ربه فهو غير مشاهد لذاته . و اختلف أهل العلم في معرفته به على مذهبين . كالرسول إن كلمه . أحدهما : بأن يضطره إلى العلم به . و الثاني : بسماع الخطاب المقترن بالآيات . و أما معرفة الرسول من الملك ، و معرفة الأمة من الرسول فالرسول مشاهد لذات الملك ، و الأمة مشاهدة لذات الرسول . و لمشاهدة الذوات تأثير في العلم بمراد الخطاب : فيتنوع بيان توقيفه فيما أريد بالخطاب أنواعاً فيكون بعضه باللفظ الصريح ، و بعضه بالفعل الظاهر . و بعضه بالإشارة الباطنة ، و بعضه بالإمارات التي تضطر المشاهد إلى العلم بما أريد بها . و ليس لها نعت موصوف ، و لا حد مقدر . و إنما يعلمه المشاهد بمفهوم أسبابه فيصير البيان باختلاف أنواعه توقيفاً من الملك إلى الرسول ، و من الرسول إلى الأمة ، و يجوز أن يختلف نوع بيانهما إذا عرف . 3 ـ كلام الله في الرؤيا : فأما القسم الثالث : و هو أن يكون عن رؤيا منام . فإن لم يكن ممن تصدق رؤياه لكثرة أحلامه ، لم يجز أن يدعي به النبوة ، و إن كان ممن تصدق رؤياه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً " ، لم يجز أن يدعي النبوة من أول رؤيا ، لجواز أن يكون من حديث النفس ، و أن الرؤيا قد تصح تارة ، و تبطل أخرى . فإن تكررت رؤياه مراراً حتى قطع بصحبتها ، و لم يخالجه الشك فيها . جاز أن يدعي النبوة فيما كان حفظاً لما تقدمها من شرع . و بعثاً على العمل بها من بعيد . و لم يجز أن يعتد بها في نسخ شرع و لا استئاف شرع . و لا تعبد . و يجوز أن يعمل على رؤيا نفسه فيما يلتزمه من استئناف شرع . و لا يجوز أن يعمل عليها في نسخ ما لزمه من شرع ، ليكون بها ملتزماً و لا يكون بها مسقطاً . شروط خطاب الرسول لأمته : و أما خطاب الرسول لأمته فيما بلغهم من رسالة ربه بعد ظهور معجزته و الإخبار بنبوته و لزومه للأمة . فمعتبر بخمسة شروط : أحدها : العلم بانتفاء الكذب عنه فيما ينقله عن الله تعالى من خبر ، أو يؤديه من تكليف ، كما انتفى عنه الكذب في ادعاء الرسالة ، و يكون المعجز دليلاً على صدقه في جميع ما تضمنه الرسالة . و الثاني : أن يعلم من حاله أنه لا يجوز أن يكتم ما أمر بأدائه : لأن كتمانه يمنع من التزام رسالته لجواز أن يكتم إسقاط ما أوجب . و إن جاز أن يكتم بيانه قبل وقت الحاجة و لا يكون كتماناً . و الثالث : أن ينتفي عنه ما يقتضي التنفير من قبول قوله لأن الله تعالى حماه من الغلطة ، لئلا ينفر من متابعته ، و كان أولى أن لا ينفر عن قبول خطابه . و الرابع : أن يقترن بخطابه ما يدل على المراد به لينتفي عنه التلبيس و التعمية في أحكام الرسالة ، حتى يعلم حقوق التكليف ، و إن جاز تعمية خطابه فيما لم يتضمنه التكليف ، قد اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل في أطراف بدر و قال له : ممن أنت ؟ فقال : من ماء . فورى عن نسبه بما استبهم على سائله لخروجه عما يؤديه شرعاً إلى أمته . و الخامس : العلم بوجوب طاعته ، ليعلم بها وجوب أوامره . و اختلف في طاعته هل وجبت عقلاً أو سمعاً بحسب اختلافهم في بعثة الرسل ، هل هو من موجبات العقل أم لا . خطاب الرسول مفهوم أو مبهم : و إذا تكلمت شروط الالتزام لم يخل خطابه من أن يكون مفهوماً أو مبهماً . فالمفهوم أربعة : النص ، و فحوى الكلام ، و لحن القول : و مفهوم اللفظ . و فحوى الكلام ما دل على ما هو أقوى من نطقه ، و لحن القول ما دل على مثل نطقه ، و مفهوم اللفظ مأخوذ من معنى نطقه ، فهذه الأربعة مفهومة المعاني بألفاظها ، مستقلة بذواتها معلومة المراد بظواهرها فلا احتياج بعد البلاغ إلى بيان . و أما المبهم فثلاثة : المجمل ، و المحتمل ، و المشتبه ، فأما المجمل فما أخذ بيانه من غيره و لا يدخل العقل في تفسيره ، فلا يعلم إلا بسمع و توقيف ، و أما المحتمل فهو ما تردد بين معان مختلفة ، فإن أمكن الجمع بين جميعهاً حمل على جميع ما تضمنه و استغني عن البيان إلا أن يرد بالاقتصار على بعضها بيان . و إن لم يمكن حملها على الجميع لتنافيها و كان المقصود أحد معانيها فإن أمكن الاستدلال عليه بمخرج الخطاب أو بمشاهدة الحال كان فيه بيان أو تعذر بيانه من هذا الوجه حمل على عرف الشرع ، فإن تعذر حمل على عرف الاستعمال ، فإن تعذر حمل على عرف اللغة فإن تعذر فبيانه موقوف على التوقيف . و أما المشتبه فما أشكل لفظه و استبهم معناه . شاهد على المبهم : " روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : يا رسول الله ، إنك تأتينا بكلام لا نعرفه ، و نحن العرب حقاً فقال : رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : إن ربي علمني فتعلمت ، و أدبني فتأدبت " . فإن تلوح في المشتبه إشارة إلى معناه ، جاز أن يكون استنباطه موقوفاً على الاجتهاد . و إن تجرد عن تجرد عن إشارة كان موقوفاً على التوقيف . و على الرسول تبليغ بيانه كما كان عليه تبليغ أصله ، و على من سمعه من الرسول أن يبلغه من لم يسمعه ، حتى ينتقل إلى عصر بعد عصر على الأبد فيعلمه القرن الثاني من الأول ، و الثالث من الثاني . و كذلك أبداً لتدوم الحجة بهم إلى قيام الساعة . و لذلك " قال النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ليبلغ الشاهد الغائب " . الفرق بين الأنبياء و الرسل : فأما الفرق بين الأنبياء و الرسل فقد جاء بهما القرآن جمعاً و مفصلاً بقول الله تعالى : " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته " . و اختلف أهل العلم في الأنبياء و الرسل على قولين : أحدهما أن الأنبياء و الرسل واحد . فالنبي رسول و الرسول نبي . و الرسول مأخوذ من تحمل الرسالة . و النبي مأخوذ من النبأ ، و هو الخبر إن همز ، لأنه مخبر عن الله تعالى و مأخوذه من النبوة إن لم يهمز ، و هو الموضع المرتفع و هذا أشبه لأن محمداً صلى الله تعالى عليه و سلم قد كان يخاطب بهما . و القول الثاني : أنهما يختلفان ، لأن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات و الرسول أعلى منزلة من النبي ، و لذلك سميت الملائكة رسلاً و لم يسموا أنبياء . و اختلف من قال بهذا في الفرق بينهما على ثلاثة أقاويل : أحدها : أن الرسول هو الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي . و النبي هو الذي يوحى إليه في نومه . و القول الثاني : أن الرسول هو المبعوث إلى أمة و النبي هو المحدث الذي لا يبعث إلى أمة قاله قطرب . و القول الثالث : أن الرسول هو المبتدئ بوضع الشرائع و الأحكام . و النبي هو : الذي يحفظ شريعة غيره قاله الجاحظ . وجوب البلاغ و زمانه : و إذا نزل الوحي على الرسول ، و عين له زمان الإبلاغ لم يكن له تقديمه عليه ، و لا تأخيره عنه . و إن لم يعين له زمانه فعليه تبليغه في أول أوقات إمكانه . فإن خاف من تبليغ ما أمر به شدة الأذى و عظم الضرر ، لزمه البلاغ و لم يكن الأذى عذراً له في الترك و التأخير ، لأن الأنبياء يتكلفون من احتمال المشاق ما لا يتكلفه غيرهم لعظم منزلتهم و ما أمدوا به من القوة على تحمل مشاقهم . و إن خاف منه القتل ، فقد اختلف المتكلمون في وجوب البلاغ فذهب بعضهم إلى اعتبار أمره البلاغ ، فإن أمر به مع تخوف القتل لزمه أن يبلغ و إن قتل . و إن أمر به مع الأمن لم يلزمه البلاغ إذا خاف القتل . و ذهب آخرون منهم إلى اعتبار حاله ، فإن لم يبق عليه من البلاغ سوف ما يخاف منه القتل . فإن لم يكن الأمر بالبلاغ مرتباً لزمه أن يقدم بلاغ ما يأمن منه القتل ، ثم يبلغ ما يخاف منه القتل ، فإن قتل فإن كلام الأمر البلاغ مرتباً بابتداء ما يخاف منه القتل ، فإن الله تعالى يعصمه من القتل حتى يبلغ جميع ما أمر به لما تكفل به من إكمال دينه و الله تعالى أعلم . |
((( يتبع )))
|
الباب الخامس ـ في مدة العالم و عدة الرسل
مدة الدنيا : مدة الدنيا من ابتداء خلق العالم إلى انقضائه و فنائه سبعة آلاف سنة على ما جاءت به التوراة المنزلة على موسى عليه السلام . و ذكره أنبياء بني إسرائيل ، و قد وافق عليه من قال بتييسر الكواكب ، و إنها مسير الكواكب السبعة . فسير كل كوكب منها ألف سنة . و قد روي " عن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم أنه قال : الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفاً " . " و قال صلى الله تعالى عليه و سلم : بعثت و الساعة كهاتين " و جمع بين أصبعيه الوسطى و السبابة يعني أن الباقي منها كزيادة الوسطى على السبابة . " و روى سلمة بن عبد الله الجهني ، عن أبي مسجعة الجهني عن أبي رحاب الجهني ، أنه قال للنبي صلى الله تعالى عليه و سلم : رأيتك على منبر فيه سبع درج ، و أنت على أعلاها فقال : الدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفاً " . " و روى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري . قال : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم بعد صلاة العصر يقول أيها الناس إن الدنيا خضرة حلوة ، و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعلمون . و أخذ في خطبته إلى أن قال : لأعرفن رجلا منعته مهابة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه و شهده ، ثم قال و قد أزف غروب الشمس ، إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منه كبقية يومكم هذا فيما مضى منه يوفى بكم سبعون أمة قد توفي تسع و ستون ، و أنتم آخرها " . فصارت هذه المدة المقدرة في عمر الدنيا سبعة آلاف متفقاً عليها فيما تضمنته الكتب الإلهية و وردت به الأنباء النبوية مع ما سلك به الموافق من تسيير الكواكب السبعة . و إن كان المعول في المغيب على الأنباء الصادقة الصادرة عن علام الغيوب الذي لم يشرك في غيبه إلا من أطلعه عليه من رسله ، فخلق العالم في ستة أيام ابتداؤها يوم الأحد ، و انقضاؤها يوم الجمعة . ابتداء الخلق : و اختلف أهل الكتب السالفة و أهل العلم في شرعنا فيما ابتدئ بخلقه على ثلاثة أقاويل : أحدها : و هو قول طائفة : أنه بدأ بخلق الأرض في يوم الأحد و الاثنين . لقول الله تعالى : " قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين " . و خلق الجبال في يوم الثلاثاء ، و خلق الماء و الشجر في يوم الأربعاء ، خلق السماء في يوم الخميس ، و خلق الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم في يوم الجمعة . قال الشعبي : و لذلك سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق كل شيء . و الثاني : و هو قول فريق : أنه بدأ يخلق السموات قبل الأرض في يوم الأحد و الاثنين لقول الله تعالى : " فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أسكن في كل سماء ملائكتها . و الثاني : خلق في كل سماء ما أودعه فيها من شمس و قمر و نجوم . و الثالث : أوحى إلى كل سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة . ثم خلق الأرض و الجبال في يوم الثلاثاء و الأربعاء و خلق ما سواهما من العالم في يوم الخميس و الجمعة . و الثالث : و هو قول آخرين : أنه خلق السماء دخاناً قبل الأرض ، ثم فتقها سبع سموات بعد الأرض بقول الله تعالى : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها " . فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أي أعطيا الطاعة في السير المقدر لكما باختيار أو إجبار . قاله سعيد بن جبير . الثاني : أخرجا ما فيكما طوعاً و كرهاً . الثالث : كونا كما أردت من شدة و لين ، و حزن و سهل ، و ممتنع و ممكن . " قالتا أتينا طائعين " أي كما أردت أن تكون . و في قولهما ذلك وجهان : أحدهما : أن ظهور الطاعة منهما قام مقام قولهما . و الثاني : إنه خلق فيهما كلاماً نطق بذلك . قال أبو النظر السكسكي : فنطق من الأرض موضع الكعبة ، و نطق من السماء ما بحيالها فوضع الله فيها حرمه . خلق آدم : فأما آدم فهو آخر ما خلق الله تعالى في يوم الجمعة . خلقه من تراب الأرض ، و نفخ في أنفه من نسمة الحياة ، فهو أنفس من كل ذي حياة ، روى أبو زهر " عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم : خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، منهم : الأحمر و الأبيض و الأسود و بين ذلك ، و الحزن و السهل و الخبيث و الطيب . و بين ذلك " . و في تسميته بآدم قولان : أحدهما : أنه اسم عبراني نقل إلى العربية . و القول الثاني : إنه اسم عربي و فيه قولان . أحدهما : أنه سمي بذلك لأنه خلق من أديم الأرض . و أديمها وجهها . و الثاني : سمي بذلك لاشتقاقه من الأدمة . و هي السمرة . خلق حواء : فلما تكامل خلق آدم استوحش فخلق له حواء . و اختلف فيما خلقت منه على قولين . أحدهما : أنه خلقها من مثل ما خلق منه آدم . و هذا قول تفرد به ابن بحر . و القول الثاني : و هو ما عليه الجمهور أنه خلقها من ضلع آدم الأيسر بعد أن ألقى عليه النوم حتى لم يجد لها مساً . قال ابن عباس : فلذلك تواصلا ، و لذلك سميت امرأة لأنها خلقت من المرء . ===>> |
و في تسميتها حواء قولان . أحدهما : لأنها خلقت من حي .
و الثاني : لأنها أم كل حي . فقال آدم : لما خلقت منه حواء : هذا الشخص عظمه من عظمي ، و لحمه من لحمي ، فلذلك صار الرجل و المرأة كجسد واحد ، من شدة الميل ، و فضل الحنو قال الله تعالى : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " يعني آدم " وخلق منها زوجها " يعني حواء . فروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " خلق الرجل من التراب فهمه في التراب ، و خلقت المرأة من الرجل : فهمها الرجل " . متى خلقت حواء : و اختلف في الوقت الذي خلقت فيه حواء على قولين : أحدهما : أنها خلقت منه في الجنة ، بعد أن استوحش من وحدته و هذا قول ابن عباس و ابن مسعود . و القول الثاني : أنها من ضلعه قبل دخوله الجنة ثم أدخلا معاً إليها ، و هو أشبه بقول الله تعالى : " وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " . قال ابن عباس خلق آدم يوم الجمعة و أدخل الجنة يوم الجمعة ، و أخرج منها يوم الجمعة ، و فيها تقوم الساعة . الجنة التي دخلها آدم : و اختلف في الجنة التي أسكنها على قولين : أحدهما : أنها جنة الخلد . و القول الثاني : أنها جنة أعدها الله تعالى لهما دار ابتلاء ، و ليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء ، و فيها على هذا قولان : أحدهما : أنها في السماء لأنه أهبطها منها . و القول الثاني : إنها في الأرض لأنه امتحنها فيها بلأمر و النهي . الشجرة التي أكل منها آدم : و اختلف في الشجرة التي نهيا عن أكلها فقيل : إنها شجرة الخلد . و قيل إنها شجرة العلم . و في هذا العلم قولان : أحدهما : علم الخير و الشر . و الثاني : علم ما لم يعلم . و قيل في الشجرة غير ذلك من الأقاويل . فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما بالمعصية و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . قال الله تعالى : " فأزلهما الشيطان عنها " . حين بعثهما على أكل الشجرة " فأخرجهما مما كانا فيه " . و فيه تأويلان : أحدهما : عما كانا فيه من الطاعة إلى ما صارا إليه من المعصية . و الثاني : عما كانا فيه من النعيم في الجنة إلى ما صار إليه من النكد في الأرض . فحزن آدم حين أهبط إلى الأرض ، و بقي في حزنه مائة سنة لا يقرب فيه حواء ، ثم غشيها فولدت له بعد المائة قابيل ، ثم غشيها فولدت له هابيل ، فقتل قابيل هابيل فحزن آدم لذلك حزناً شديداً . و قيل : إنه جعل حزنه جزاء على معصيته في الأكل ، و قد يصاب الأباء في أولادهم من أجل معاصيهم ، ثم خف حزنه فغشي حواء فولدت له شيئاً . علم الله آدم الأسماء : و علم آدم الأسماء كلها كما ذكره الله تعالى في كتابه . و فيما علمه من الأسماء قولان : أحدهما : علم النجوم . قاله حميد . . الثاني : إنها أسماء مسميات و فيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أسماء الملائكة قاله الربيع بن أنس . و الثاني : أسماء جميع ذريته قاله عبد الرحمن بن زيد . و الثالث : أسماء جميع الأشياء و فيه على هذا قولان . أحدهما : أن تعليمه كان مقصوراً على الأسماء دون معانيها . و الثاني : أنه علمه الأسماء و معانيها لأنه لا فائدة في علم الأسماء بلا معان ، لأن المعاني هي المقصودة و الأسماء دلائل عليها . هبوط آدم إلى الأرض : و لما هبط آدم إلى الأرض ، قيل إنه أهبط إلى شرقي أرض الهند ، و حواء بجدة ، و إبليس على ساحل نهر الأبلة و الحية في البرية . و كانت نبوة آدم مقصورة عليه ، و ما نزل عليه من الوحي متوجهاً إليه فكان المصطفين دون المرسلين . و اختلف فيه أهل الكتاب هل خلق في ابتدائه قابلاً للموت أو جعل الموت عقوبة له على معصيته . فقال بعضهم خلق آدم في ابتداء نشأته على الطبيعة الباقية و الطبيعة الميتة ليكون إن مال إلى الشهوات الجسمانية و أثرها وقع في التغايير الجسمانية و ناله الموت ، و إن آثر فضائل النفس الأمارة بالخير نال البقاء الذي سعدت به الملائكة فلم تمت . فلما عصى بأكل الشجرة عدل إلى التغايير فناله الموت و استشهدوا عليه من التوراة بما ذكر فيها : إنك إن أكلت من الشجرة يوم تأكل منها فموتاً تموت فلم يجز أن يتوعده بالموت عند معاقبته و هو يموت لو لم يعاقب . و قال آخرون منهم ــ و هو أشبه بمقتضى العقول : إنه خلق في ابتداء إنشائه قابلاً للموت في الدنيا و إن لم يعص لأنه أحوجه إلى الغداء كذريته و ليس شيء من الجواهر التي لا ينالها الموت محتاجة إلى الغذاء ، و لم يجعل الموت عقوبة على المعصية و لذلك لم يمت من عصى من الملائكة ، و إن في التوراة مكتوباً إن مد يده في الجنة إلى شجرة الحياة و أكل منها حيي الدهر كله فدل على أنه مطبوع على قبول الموت . خلق الله آدم على أكمل عقل : و لما خلق الله تعالى آدم ابتداء و لم يخلقه بتوسط طبيعة كما خلق نسله كان على أفضل اعتدال و أكمل عقل ، فصار قلبه معدناً للحكمة الإنسانية و جسده مهيأ للأفعال البشرية ، فلم يمتنع عليه شيء منها حتى أحاط علاماً و قدرة بجميعها ، و لذلك علم الأسماء كلها ، و ألهم الحكمة بأسرها و اطلع على أسرار النجوم و عملها و عرف منافع الحيوان و النبات و مضارها ، و لولا ذلك لما فرق بين الغذاء و الدواء و لا بين السموم القاتلة و الشفاء ، و لا اهتدى بالنجوم في بر و لا بحر ، و كان هو المدبر لأولاده مدة حياته حتى مات بعد تسعمائة و ثلاثين سنة من عمره ، ثم قام بالأمر من بعده شيث بن آدم فبرع في الحكمة و فاق في علم النجوم بما أخذه عن أبيه آدم و بما استفاده بالتجربة و مررو الزمان . أولاد آدم : و اختلف أهل الكتاب في نبوة شيث فادعاها بعضهم و أنكرها آخرون منهم . و ولد بعد مائتين و ثلاثين سنة من عمر أبيه آدم ، و مات و له تسعمائة و اثنتا عشرة سنة . فكان قيامه بالأمر بعد موت آدم مائتين و اثنتي عشرة سنة . و اتفق أهل الكتاب أنه لم يكن بين شيث و إدريس نبي غير إدريس ، ثم قام بلأمر بعد شيث ولده أنوش بن شيث ، و كان مولده بعد مائتين و خمسين سنة من عمر شيث ، و مات أنوش و له تسعمائة و خمسون سنة ، فكان قيامه بالأمر بعد شيث مائتين و ثماني و ثمانين سنة . |
ثم قام بالأمر بعد أنوش ولده قينقان بن أنوش ، و ولد بعد مائة و تسعين سنة من عمر أنوش، و مات قينان و له تسعمائة و عشرون سنة ، فكان قيامه بالأمر بعد آنوش مائة و تسعين سنة ، ثم قام بالأمر بعد قينان و لده مهلاييل ، و ولد بعد ثمانمائة و خمس و سبعين فكان قيامه بالأمر بعد قينان مائة و عشر سنين .
ثم قام بالأمر بعد مهلاييل ولده يارد بن مهلاييل ، و ولد بعد مائة و خمس و ستين سنة من عمر مهلاييل ، و مات يارد وله تسعمائة و اثنتان و ستون سنة فكان قيامه بالأمر بعد مهلابيل مائتين و اثنتين و خمسين سنة . ثم قام بالأمر بعد يارد ولده أخنوخ بن يارد و هو إدريس ، و ولد بعد مائة و اثنتين و ستين سنة من عمر يارد و هو نبي على قول جميع أهل الملل . و اختلف أهل الكتاب هل هو أول الأنبياء . أو ثانيهم ، فقال من زعم أن شيئاً نبي هو ثاني الأنبياء . و قال من زعم أن شيئاً ليس بنبي أن إدريس أول الأنبياء ، و هو أول من شرع الأحكام ، و أول من اتخذ السلاح و جاهد في سبيل الله تعالى ، و سبى و قتل بني قابيل و لبس الثياب ، و كانوا يلبسون الجلود ، و أول من كتب الخط في قول الأكثرين ، و أول من وضع الأوزان و الكيول ، ثم رفعه الله تعالى إليه حياً بعد سبعمائة و خمس و ثمانين سنة من عمره أقام فيها داعياً و أبوه حي على ما يقتضيه تاريخ هذه المواليد و الأعمار المأخوذة من التوراة المنزلة . قال ابن قتيبة : و سمي إدريس لكثرة ما كان يدرس من كتب الله تعالى و سنن الإسلام . نوح عليه السلام : ثم كثر الناس ، فافترقوا بعد إدريس ، و زادوا إلى زمن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ و هو إدريس و هو آخر نبي بعث قبل الطوفان على قول من زعم أن شيئاً نبي . و نزل الطوفان بعد ستمائة سنة من عمره ، و أنذر قومه فكذبوه ، و صنع السفينة فسخروا منه ، و أمره الله تعالى أن يصنعها في طول ثلاثمائة ذراع و عرض خمسين ذراعاً ، و علو ثلاثين ذراعاً ، و تكون ثلاث طبقات ليركب فيها هو و أهله ، و يأخذ من كل جنس من الحيوان زوجاً ذكراً و أنثى ليكونوا أصولاً لنسلهم ، فيحيا بهم العالم ، ثم وعده أن يستمطره بعد سبعة أيام أربعين يوماً و أربعين ليلة فلم يبق في الأرض ذو روح إلا من ركبها ، و غاض الطوفان بعد مائة و خمسين يوماً ، فاستوت على الجودي و هو جبل بأرض الجزيرة شهراً و سمي الماء طوفاناً لأنه طفا فوق كل شيء . و اختلف فيما عاش نوح بعد الطوفان . فقال الأكثرون : ثلاثمائة و خمسين سنة ، و هو ظاهر و مانزل به القرآن . و قال آخرون ستمائة و خمسين سنة لأنه لبث تسعمائة و خمسين سنة داعياً لقومه و كان له قبل دعائه ثلاثمائة سنة . التاريخ من آدم إلى نوح عليهما السلام : و اختلف فيما بين هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان . فقال اثنان و سبعون حبراً من بني إسرائيل نقلوا التوراة إلى اليونانية : بينهما ألفان و مائتان و اثنتان و أربعون سنة . ثم تبللت الألسن بعد الطوفان بستمائة و سبعين سنة ، فافترق اثنان و سبعون لساناً في اثنتين و سبعين أمة . قال و هب بن منبه : منها في ولد سام بن نوح تسعة عشر لساناً ، و في ولد حام سبعة عشر لساناً و في ولد يافث ستة و ثلاثون لساناً . و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام أربعمائة و إحدى عشرة سنة و من مولد إبراهيم إلى موسى بن عمران عليه السلام أربعمائة و خمس و عشرون سنة . و أخرج بني إسرائيل من مصر بعد ثمانين سنة ، و دبر أمرهم أربعين سنة ، ومات وله مائة و عشرون سنة ، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ثلاثة آلاف و ثمانمائة و ثماني و ستين سنة . و قال آخرون من بني إسرائيل المقيمين على التوراة العبرانية التي يتداولها جمهور اليهود في وقتنا . إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفاً و ستمائة و ستاً و خمسين سنة ، و من انقضاء الطوفان إلى تبلبل الألسن مائة و إحدى و ثلاثين و إحدى و ثلاثين سنة ، و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم مائة و إحدى وستين سنة ، و من مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة و خمساً و أربعين سنة فصار الوقت من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين و أربعمائة و ثلاثاً و تسعين سنة . و قالت السامرة من اليهود عن تاريخ توراتهم إن من هبوط آدم من الجنة إلى مجيء الطوفان ألفاً و ثلثمائة و سبعاً و ستين سنة ، و من الطوفان إلى تبلبل الألسن خمسمائة و ستاً و عشرين سنة ، و من تبلبل الألسن إلى مولد إبراهيم أربعمائة و إحدى عشرة سنة ، و من مولد إبراهيم إلى وفاة موسى خمسمائة و خمساً و أربعين سنة ، فصار من هبوط آدم إلى وفاة موسى ألفين و ثمانمائة وتسعاً و أربعين سنة . أول نبي بعد نوح عليه السلام : و أول نبي بعد نوح ، إبراهيم ، و هو أول من قص شاربه و استحد و اختتن و قلم أظفاره و استاك ، و تمضمض ، واستنشق ، و استنجى بالماء . و اول من أضاف الضيف و أطعم المساكين و ثرد الثريد ، و كان داعياً إلى عبادة الله تعالى و توحيده . ثم ولده إسحق بن إبراهيم ، ولد له عيصو و يعقوب توأمين في بطن واحد فخرج عيصو ثم خرج بعده يعقوب ويده عالقة على عقبه فسمى يعقوب فعيصو أبو الروم و كان أصفر فلذلك سميت الروم بني الأصفر ، و يعقوب هو إسرائيل أبو الأسباط ، و أيوب بن بولص كان أبوه ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق وكان في زمن يعقوب ، و كان صهره ، زوجه يعقوب بنته ليا وهي التي ضربها بالضغث . أول نبي من بني إسرائيل : و أول نبي من بني إسرائيل موسى و آخرهم عيسى . وكانت نبوة يعقوب بن إسحق بن إبراهيم و من بعده من ولده قبل موسى مقصورة على أنفسهم حتى دعا موسى إلى نبوته بني إسرائيل . و من وفاة موسى إلى ملك بختنصر تسعمائة و ثمان و سبعون سنة ، و إلى ملك الإسكندر ألف و أربعمائة و ثلاث عشرة سنة . آخر أنبياء بني إسرائيل : و ولد عيسى ليلة الأربعاء الخامس و العشرون من كانون الأول لسبعمائة و تسع وثلاثين سنة من ملك بختنصر ، و لثلاثمائة و أربع سنين من ملك الإسكندر و من ملك بختنصر إلى ابتداء الهجرة ألف و ثلثمائة و تسع و ستون سنة ، و من ملك الإسكندر إلى ابتداء الهجرة ألفان و ثلثمائة و سبع و أربعون سنة ، فكان بين موت موسى و ابتداء الهجرة ألفان و ثلثمائة و سبع و أربعون سنة . و مولد عيسى بعد ألف و سبعمائة و سبع عشرة سنة من موت موسى و قيل بعد ستمائة و ثلاثين سنة من ابتداء الهجرة . مدة الدنيا : فإذا تقرر ما ذكرناه من مدة الدنيا أنها مقدرة في الكتب الإلهية بسبعة آلاف سنة كان الماضي منها إلى ابتداء الهجرة محمولاً على ما قدمناه من اختلاف أهل التوراة ، فيكون على القول الأول المأخوذ عن الأحبار الناقلين لها إلى اليونانية ستة آلاف و مائتين و ست عشرة سنة و الباقي من عمر الدنيا على قولهم بعد الهجرة سبعمائة و أربع و ثمانون سنة ، و هو موافق لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفاً " و يكون الماضي منها على القول الثاني المأخوذ عن التوراة العبرانية أربعة آلاف و ثمانمائة و إحدى و أربعين سنة ، و الباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفاً و مائة و تسعاً و خمسين سنة . و قيل إنهم قالوا ذلك ليكون رسول الله صلى الله تعالىعليه و سلم . في خامسها ألفاً فيدفعوه بنقصان التاريخ عن صفته في التوراة إنه مبعوث في آخر الزمان و يكون الماضي على القول الثالث في توراة السامرة خمسة آلاف و مائة و سبعاً و ثلاثين سنة ، و الباقي من عمر الدنيا على هذا القول بعد الهجرة ألفاً و ثمانمائة و ثلاثاً و ثلاثين سنة ليكون الرسول في سادسها ألفاً لما قيل من سنيه . و السامرة قوم ناقلة من بلاد المشرق سموا بذلك لأن تفسيره بالعربية الحفظة و هم لا يقبلون من كتب الأنبياء إلا التوراة وحدها . قيام الساعة : و الأول لأجل قول الرسول بالأشبه و إن كان قيام الساعة و انقراض مدة الدنيا و قيام العالم على هذا التاريخ الذي أثبتوه و التقدير الذي حققوه مدفوعاً عندنا بقول الله تعالى : " إن الله عنده علم الساعة " و فيه تأويلان : أحدهما : إن قيامها مختص بعلمه فامتنع أن يشاركه في علمها أحد من خلقه . و الثاني : إن قيامها موقوف على إرادته فامتنع أن يوقف على غير إرادته و قال تعالى : " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة " يعني فجأة و البغتة غير معلومة فامتنع أن تكون عندهم معلومة . ثم قال : " فقد جاء أشراطها " فيه وجهان أحدهما : نبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و هذا يدل على أنه مبعوث في آخرها ألفاً و الثاني إن أشراطها الآيات المنذرة بها . كما قال : " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " فلا تقوم الساعة إلا بعد أن ينذر الله تعالى بآياتها . روى سفيان بن عيينة "عن فرار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم من علية و نحن نتذاكر أمر الساعة قال : ما كنتم تذاكرون قلنا قيام الساعة قال : إن الساعة لن تقوم حتى يكون قبلها عشر آيات قال : لا يدري بأيهن بدأ : طلوع الشمس من مغربها و الدجال و الدخان و دابة الأرض و نزول عيسى ابن مريم و خروج يأجوج و مأجوج و ثلاث خسوف خسف بالمشرق و خسف بالمغرب و خسف بجزيرة العرب و آخر ذلك نار تخرج من قبل اليمن أو من عدن تطرد الناس إلى محشرهم " . " و روى برد عن مكحول عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في الثمانين فإن لم يخرج ففي ثمانين و مائتين فإن لم يخرج ففي ثلاثمائة و ثمانين فإن لم يخرج ففي أربعمائة و ثمانين " . " و روى معاذ بن جبل : أن النبي صلى الله تعالى عليه و سلم ذكر الدجال فقال يقيم فيكم أربعين سنة أول سنة كالشهر ، ثم الثانية كالجمعة ثم الثالثة كاليوم و سائر سنيه كالساعة حتى ينزل عيسى بن مريم فيوجره بالحربة فيذوب كما يذوب الرصاص " و في هذا دليل على تقدم يأجوج و مأجوج الدجال و آخرها الذي تقوم به الساعة ظهور النار و الله أعلم بمن استأثر بغيبه ، ثم من أطلعه عليه من رسله . الأنبياء بين موسى و عيسى عليهما السلام : و بين موسى و عيسى عليهما السلام من الأنبياء . شعيا و هو الذي بشر بني إسرائيل بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه و سلم و وصفه بعد أن بشر بعيسى فقتله بنو إسرائيل . ثم حزقيل و هو الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم حذر الموت فأماتهم الله ثم أحياهم . و منهم دانيال سباه بختنصر مع العزير و نزل من بختنصر أفضل منزل لرؤيا عبرها له و قبره بناحية السوس وجده أبو موسى الأشعري فأخرجه و كفنه و صلى عليه و دفنه . و منهم الياس بعث إلى أهل بعلبك و كانوا يعبدون صنماً يقال له بعل و كان ملكهم اسمه أجب و امرأته أزبيل . و كان يستخلفها على ملكه و هي بنت ملك سبأ و عمرت عمراً طويلاً و تزوجها سبعة من ملوك بني إسرائيل ، و هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ، ثم رفع الله تعالى الياس . ثم اليسع كان تلميذ الياس فدعا له الياس فنبأه الله بعده . ثم يونس بن متى ، ثم زكريا قتله بنو إسرائيل في الشجرة . ثم عيسى و يحيى فأما يحيى فإن أجب الملك قتله بحيلة امرأته أزبيل . و أما عيسى فإن أمه هربت به من أجب الملك إلى مصر ، و عاد به يوسف النجار مع أمه إلى قرية تدعى ناصرة ، فلذلك قيل لأصحابه نصارى لأنهم سموه عيسى الناصري . أصحاب الكهف : و أصحاب الكهف : هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح عيسى ، و ضرب الله على آذانهم فيه ، فلما بعث المسيح أخبر بخبرهم ، ثم بعثهم الله تعالى بعد المسيح في الفترة بينه و بين النبي صلى الله تعالى عليه و سلم . و جرجيس من أهل فلسطين أدرك بعض الحواريين و بعث إلى ملك الموصل . لقمان الحكيم : فأما لقمان الحكيم فكان عبداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل ، و كان في زمن داود و اسم أبيه ثاران ، و اختلف في نبوته فزعم الأكثرون أنه لم يكن نبياً . و قال سعيد بن المسيب كان نبياً و كان خياطاً . و ذو الكفل من بني إسرائيل بعث إلى ملك كان فيهم يقال له كنعان دعاه إلى الإيمان و كفل له الجنة و كتب له كتاباً و سمي ذا الكفل لذلك . عدد الأنبياء : و ذكر وهب بن منبه أن الأنبياء كلهم مائة ألف نبي و أربعة و عشرون ألف نبي : الرسل منهم ثلاثمائة نبي و خمس عشر نبياً ، منهم خمسة عبرانيون : آدم و شيث و إدريس و نوح و إبراهيم ، و خمسة من العرب هود و صالح و إسماعيل و شعيب و محمد صلوات الله عليهم . حنظلة بن صفوان : و روى أبو صالح عن ابن عباس قال : يعث الله إلى أهل الرس نبياً منهم يقال له [ حنظلة بن صفوان ] فكذبوه و قتلوه ، فأوحى الله تعالى إلى نبي كان مع بختنصر يقال له أرميا بن برخيا مر بختنصر يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتلهم بما صنعوا بنبيهم . و روي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه و سلم قال : " ذاك نبي أضاعه قومه " و ذلك أنه قال لقومه ادفنوني فإذا جاءت الظباء بعد ثلاث فأخرجوني فسأنبئكم بما أمرت ، فجاءت الظباء إلى قبره بعد ثلاث فلم يخرجوه . و قالوا تتحدث العرب عنا إنا نبشنا موتانا ، و أتت بنته رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فسمعته يقرأ : " قل هو الله أحد " فقالت : قد كان أبي يقرأ هذا و لا يضبط ذكر من سلف من الأنبياء لكثرتهم . و قول الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه و سلم : " منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " . و الله تعالى أعلم . |
بارك الله فيك اسير الصحرا وجعلها بميزان حسناتك
|
مشكور اخوي ع البحث
|
| الساعة الآن 02:18 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][