منتديات جعلان

منتديات جعلان (http://www.jalaan.com/index.php)
-   جعلان للبحوثات العلمية (http://www.jalaan.com/forumdisplay.php?f=78)
-   -   بحث((( موسوعة سيرة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام ))) (http://www.jalaan.com/showthread.php?t=10278)

اسير الصحراء 04-26-2006 07:47 PM

فصل

لما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فتح مكة ؟ اقتضت حكمة الله أن أمسك قلوب هوازن عن الإسلام ، لتكون غنائمهم شكراناً لأهل الفتح ، وليظهر حزبه على الشوكة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم أحد بعد من العرب . وأذاق المسلمين أولاً مرارة الكسرة ، مع قوة شوكتهم، ليطامن رؤوساً رفعت بالفتح ، ولم تدخل حرمه كما دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً رأسه ، منحنياً على فرسه ، حتى إن ذقنه ليكاد يمس قربوس سرجه تواضعاً لربه . وليبين سبحانه -لمن قال : لن نغلب اليوم عن قلة- أن النصر إنما هو من عنده سبحانه ، وأن من يخذله فلا ناصر له غيره . وأنه سبحانه الذي تولى نصر دينه ، لا كثرتكم . فلما انكسرت قلوبهم ، أرسل إليها خلع الجبر مع بريد النصر " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها " ، وقد اقتضت حكمته أن خلع النصر إنما تفيض على أهل الانكسار " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين

اسير الصحراء 04-26-2006 07:47 PM

غزوة الطائف :
ولما أراد المسير إلى الطائف -وكانت في شوال سنة ثمان- بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفين -صنم عمرو بن حممة الدوسي- يهدمه ، وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف . فخرج سريعاً فهدمه وجعل يحثو النار في وجهه ، ويقول :
يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعاً ، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بالطائف -بعد مقدمه بأربعة أيام- وقدم بدبابة ومنجنيق.
قال ابن سعد : لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم ، وتهيؤوا للقتال ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل قريباً من حصن الطائف ، وعسكر هناك . فرموا المسلمين بالنبل رمياً شديداً ، كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة. وقتل منهم اثنا عشر رجلاً ، فارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم ، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً . ونصب عليهم المنجنيق -وهو أول من رمى به في الإسلام- وأمر بقطع أعناب ثقيف . فوقع الناس فيها يقطعون ، فسألوه : أن يدعها لله وللرحم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أدعها لله وللرحم .
ونادى مناديه : أيما عبد نزل من الحصن ، وخرج إلينا ، فهو حر، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً ، فيهم أبو بكرة بن مسروح ، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه .
ولم يؤذن في فتح الطائف ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأذن بالرحيل ، فضج الناس من ذلك ، وقالوا : نرحل ، ولم يفتح علينا؟ [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :اغدوا على القتال، فغدوا ، فأصابهم جراحات]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا قافلون غداً إن شاء الله، فسروا بذلك ، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك .
فلما ارتحلوا واستقلوا ، "قال : قولوا : آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون" .
وقيل : يا رسول الله ! ادع الله على ثقيف ، "فقال : اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم" .
ثم خرج إلى الجعرانة، فدخل منها إلى مكة محرماً بعمرة فقضاها ، ثم رجع إلى المدينة

اسير الصحراء 04-26-2006 07:49 PM

فصل : قول ابن اسحاق وقدم رسول الله المدينة من تبوك

قال ابن إسحاق : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك في رمضان ، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف .
وكان من حديثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم : اتبع أثره عروة بن مسعود ، حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة . فأسلم ، وسأله : أن يرجع إلى قومه بالإسلام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فيهم نخوة الامتناع ، فقال : يا رسول الله ! أنا أحب إليهم من أبكارهم . وكان فيهم كذلك محبباً مطاعاً .
فخرج يدعوهم إلى الإسلام ، رجاء أن لا يخالفوه ، لمنزلته فيهم. فلما أشرف لهم على علية -وقد دعاهم إلى الإسلام- رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله ، فقيل له : ما ترى من دمك ؟ فقال : كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إلي ، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم ، فادفنوني معهم . فدفنوه معهم ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه .
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب ، وقد أسلموا وبايعوا، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ، كما أرسلوا عروة .
فكلموا عبد ياليل بن عمرو ، وعرضوا عليه ذلك ، فأبى ، وخشي أن يصنع به كما صنع بعروة ، فقال : لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً ، فأجمعوا أن يرسلوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك ، منهم عثمان بن أبي العاص . فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ، ألفوا بها المغيرة بن شعبة ، فاشتد ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم [بقدومهم ، فلقيه أبو بكر ، فقال : أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم]، حتى أكون أنا أحدثه . ففعل ، ثم خرج المغيرة إلى أصحابه ، فروح الظهر معهم . وعلمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية ، فضرب عليهم قبة في ناحية المسجد .
وكان فيما سألوه : أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنوات ، فأبى . فما برحوا يسألونه سنة ، فيأبى ، حتى سألوه شهراً واحداً ، فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى . وإنما يريدون بذلك -فيما يظهرون- أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم ، ويكرهون أن يروعوهم بهدمها ، حتى يدخلهم الإسلام ، فأبى إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها .
فلما أسلموا أمر عليهم عثمان بن أبي العاص -وكان من أحدثهم سناً- وذلك : أنه كان من أحرصهم على التفقه في الدين ، وتعلم القرآن .
فلما توجهوا راجعين بعث معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة ، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة : أن يقدم أبا سفيان ، فأبى، وقال : ادخل أنت على قومك . وأقام أبو سفيان بماله بذي الهدم . فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول . وقام دونه بنو معتب ، خشية أن يرمى ، كما فعل بعروة ، وخرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها ، فلما هدمها أخذ مالها وحليها وأرسل به إلى أبي سفيان

اسير الصحراء 04-26-2006 07:49 PM

ما في غزوة الطائف من الفقه :

فيها من الفقه : جواز القتال في الأشهر الحرم ، ونسخ تحريم ذلك .
وفيها : أنه لا يجوز إبقاء مواضع الطواغيت والشرك بعد القدرة عليها يوماً واحداً ، فإنها شعائر الكفر ، وهي أعظم المنكرات ، وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله ، وكذلك الأحجار والأشجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر لها وكثير منها بمنزلة اللات والعزى، أو أعظم شركاً عندها ، وبها .
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق ، وتميت وتحيي . وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم ، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم . وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل وخفاء العلم ، وغلبة التقليد ، وصار المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والسنة بدعة والبدعة سنة ، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير ، وطمست الأعلام ، واشتدت غربة الإسلام .
ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين ، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .
وفيها : صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه المشاهد من عابديها، فيجب على الإمام أن يصرفها في الجهاد ومصالح المسلمين، وكذلك أوقافها تصرف في مصالح المسلمين

اسير الصحراء 04-26-2006 07:50 PM

فصل في حوادث سنة تسع :

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ودخلت سنة تسع ، بعث المصدقين يأخذون الصدقات من الأعراب .
وفيها : بعث علياً رضي الله عنه إلى صنم طي ليهدمه ، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر ، فهدموه ، وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء . وفي السبي سفانة أخت عدي بن حاتم ، وهرب عدي إلى الشام . ووجدوا في خزانته ثلاثة أسياف، وثلاثة أدرع . وقسم علي الغنائم في الطريق ، ولم يقسم السبي من آل حاتم حتى قدم بهم المدينة .
قال عدي : ما كان رجل من العرب أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني ، حين سمعت به ، وكنت رجلاً شريفاً نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع ، وكنت في نفسي على دين ، فقلت لغلام لي راع لإبلي : اعدد لي من إبلي أجمالاً دللاً سماناً ، فإذا سمعت بجيش محمد قد وطىء هذه البلاد فآذني. فأتاني ذات غداة فقال : ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنع الآن، فإني قد رأيت رايات ، فسألت عنها ؟ فقالوا : هذه جيوش محمد . قلت : قرب لي أجمالي . فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : الحق بأهل ديني من النصارى بالشام . وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضرة . فلما قدمت الشام أقمت بها ، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيء .
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام ، فمر بها ، فقالت : يا رسول الله ! غاب الوفد ، وانقطع الوالد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمن علي ، من الله عليك . فقال :من وافدك ؟، قالت : عدي بن حاتم ، قال :الذي فر من الله ورسوله ؟ -وكررت عليه القول ثلاثة أيام- قالت : فمن علي ، وسألته الحملان ، فأمر لها به وكساها وحملها وأعطاها نفقة .
فأتتني ، فقالت : لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها . ائته راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه ، وأتاه فلان وأصاب منه . قال : فأتيته ، وهو جالس في المسجد ، فقال القوم : هذا عدي بن حاتم -وجئت بغير أمان ولا كتاب- فأخذ بيدي -وكان قبل ذلك قال : إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي- فقام إلي ، فلقيته امرأة ومعها صبي ، فقالا : إن لنا إليك حاجة، فقام معهما حتى قضى حاجتهما . ثم أخذ بيدي حتى أتى داره ، فألقت له الوليدة وسادة. فجلس عليها ، وجلست بين يديه. فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ما يفرك ؟ أيفرك أن تقول لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله سوى الله ؟ فقلت : لا ، فتكلم ساعة . ثم قال : أيفرك أن يقال : الله أكبر ؟ وهل تعلم شيئاً أكبر من الله ؟ قلت : لا ، قال : فإن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون، فقلت : فإني حنيف مسلم . فرأيت وجهه ينبسط فرحاً .
ثم أمر بي فأنزلت عند رجل من الأنصار ، وجعلت آتيه طرفي النهار . فبينا أنا عنده ، إذ جاءه قوم في ثياب من صوف من هذه النمار ، فصلى ثم قام . فحث بالصدقة عليهم ، وقال:"أيها الناس ، أرضخوا من الفضل ولو بصاع ، ولو بنصف صاع ، ولو بقبضة، ولو ببعض قبضة ، يقي أحدكم وجهه حر جهنم -أو النار- ولو بتمرة ، ولو بشق تمرة . فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة ، فإن أحدكم لاق الله ، فقائل له ما أقول لكم : ألم أجعل لك مالاً وولداً ؟ فيقول : بلى ، فيقول : أين ما قدمت لنفسك ؟ فينظر قدامه وخلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، فلا يجد شيئاً يقي به وجهه حر جهنم ، ليق أحدكم وجهه النار ، ولو بشق تمرة ، فإن لم يجد فبكلمة طيبة. فإني لا أخاف عليكم الفاقة. فإن الله ناصركم ومعطيكم ، حتى تسير الظعينة ما بين يثرب والحيرة ، ما تخاف على مطيتها السرق" .
فجعلت أقول : فأين لصوص طيء

اسير الصحراء 04-26-2006 07:51 PM

قصة كعب بن زهير :
قال ابن إسحاق : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل رجالاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من شعراء قريش - ابن الزبعرى ، وهبيرة بن أبي وهب- قد هربوا في كل وجه . فإن كان لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً . وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائبك . وكان قد قال :
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة فهل لك فيما قلت؟ ويحك هل لكا؟
فبين لنا إن كنت لست بفاعل على أي شئ غير ذلك دلكا؟
على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه ولم تلف عليه أخاً لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ولا قائل إما عثرت: لعا لكا
سقاك بها المأمون كأساً روية وأنهلك المأمون منها وعلكا
فلما أتت بجيراً كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سقاك بها المأمون ، صدق والله ، وإنه لكذوب ، أنا المأمون ، ولما سمع : على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه ، قال : أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه .
ثم قال بجير بن زهير :
من مبلغ كعباً فهل لك في التي تلوم عليها باطلاً وهي أحزم؟
إلى الله-لا العزى ولا اللات-وحده فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهيــــر-وهو لا شئ-دينه ودين أبي سلمى علي محرم
فلما بلغ كعباً ضاقت عليه الأرض ، وأشفق على نفسه ، فلما لم يجد من شئ بداً ، قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج حتى قدم المدينة . فنزل على رجل كان بينه وبينه معرفة . فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر لي أنه قام فجلس إليه -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفه- فقال : يا رسول الله ! إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً ، فهل أنت قابل منه ، إن أنا جئتك به ؟ قال : نعم ، قال : أنا كعب بن زهير .
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أنه وثب عليه رجل من الأنصار . فقال : يا رسو ل الله ! دعني وعدو الله أضرب عنقه . فقال : دعه عنك ، فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه، فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير ، فقال قصيدته التي أولها :
‏بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ومنها :
أمست سعاد بأرض لا يبلغها إلا العتاق النجيبات المراسيل
إلى أن قال :
تسعى الغواة جنابيها وقولهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم فكل ما قدر الرحمن مفعول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
في فتية من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشـف عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
قال عاصم بن عمر : فلما قال : إذا عرد السود التنابيل، وإنما عنانا معشر الأنصار ، فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار :
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالح الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر إن الخيار هم بنو الأخيار
الذائدين الناس عن أديانهم بالمشرفي وبالقنا الخطار
والبائعين نفوسهم لنبيهـم للموت يوم تعانق وكرار
والناظرين بأعين محمـرة كالجمر غير كليلة الأبصار
والباذلين نفوسهم لنبيهم يوم الهياج وفتنــة الكفــار
يتطهرون يرونه نسكاً لهم بدماء من علقوا من الكفار
قوم إذا خوت النجوم فإنهم للطارقين النازلين مقاري

اسير الصحراء 04-26-2006 07:51 PM

فصل في غزوة تبوك :
قال ابن إسحاق : كانت في زمان عسرة من الناس ، وجدب من البلاد ، حين طابت الثمار ، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، وكان صلى الله عليه وسلم قلما يخرج من غزوة إلا ورى بغيرها ، إلا ما كان منها ، فإنه جلاها للناس لبعد الشقة ، وشدة الزمان .
فقال ذات يوم -وهو في جهازه- للجد بن قيس : هل لك في جلاد بني الأصفر؟، فقال : يا رسول الله ! أو تأذن لي ولا تفتني ؟ فقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ، أن لا أصبر ، فقال : قد أذنت لك ، ففيه نزلت : " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " .
وقال قوم من المنافقين ، بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر ، فنزل : " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا " .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى [على النفقة ، فحمل رجال من أهل الغنى] واحتسبوا ، وأنفق عثمان ثلاثمائة بعير بأحلاسها ، وأقتابها وعدتها ، وألف دينار عيناً .
وجاء البكاؤون -وهم سبعة- يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه ، تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ، أن لا يجدوا ما ينفقون .
وقام علبة بن زيد ، فصلى من الليل وبكى ، ثم قال : "اللهم إنك أمرت بالجهاد ، ورغبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه . وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها : من مال ، أو جسد أو عرض ، ثم أصبح مع الناس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أين المتصدق هذه الليلة؟ [فلم يقم إليه أحد ، ثم قال : أين المتصدق ، فليقم]، فقام إليه فأخبره ، فقال صلى الله عليه وسلم : أبشر ، فوالذي نفس محمد بيده ، لقد كتبت في الزكاة المتقبلة" .
وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم ، فلم يعذرهم .
واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تخلف عبد الله بن أبي ومن كان معه ، وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب ، منهم الثلاثة - كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع- وأبو خيثمة السالمي ، وأبو ذر ، ثم لحقاه . وشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفاً من الناس ، والخيل عشرة آلاف فرس ، وأقام بها عشرين ليلة يقصر الصلاة ، وهرقل يومئذ بحمص .
قال ابن إسحاق : "ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خلف علياً على أهله . فقال المنافقون : ما خلفه إلا استثقالاً له ، وتخففاً منه ، فأخذ سلاحه ولحق به بالجرف . فقال : يا نبي الله ! زعم المنافقون أنك ما خلفتني إلا استثقالاً . فقال : كذبوا ، ولكني خلفتك لما تركت ورائي ، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك ، أو لا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي" ، فرجع .
ودخل أبو خيثمة إلى أهله في يوم حار ، بعدما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط ، قد رشت كل واحدة منهما عريشها ، وبردت له ماء ، وهيأت له طعاماً . فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا ، فقال : رسول الله في الضح ، والريح والحر ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء ؟ ما هذا بالنصف ، ثم قال . والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهيئا لي زاداً ، ففعلتا . ثم قدم ناضحه فارتحله ، ثم خرج حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل تبوك .
وقد كان عمير بن وهب الجمحي أدرك أبا خيثمة في الطريق فترافقا ، حتى إذا دنوا من تبوك ، قال أبو خيثمة له : إن لي ذنباً ، فلا عليك أن تتخلف عني حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعل ، حتى إذا دنا من رسول الله ، قال الناس : هذا راكب على الطريق مقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا خيثمة، قالوا: يا رسول الله ! هو والله أبو خيثمة . فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله ، فقال له : أولى لك يا أبا خيثمة، فأخبره الخبر ، فقال له خيراً ، ودعا له .
وقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما مر بالحجر -من ديار ثمود- قال : لا تدخلوا على هؤلاء القوم المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، لا يصيبكم مثل ما أصابهم" .
وقال : "لا تشربوا من مائها شيئاً ، ولا تتوضؤوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً ، وأمرهم : أن يهريقوا الماء ، وأن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة" .
وفي صحيح مسلم "عن أبي حميد الساعدي ، قال : انطلقنا حتى قدمنا تبوك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستهب عليكم الليلة ريح شديدة ، فلا يقم أحد منكم، فهن كان له بعير فليشد عقاله، فهبت ريح شديدة ، فقام رجل ، فحملته الريح حتى ألقته بحبلي طيئ" .
قال ابن إسحاق : "وأصبح الناس ولا ماء معهم . فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا الله، فأرسل الله سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجتهم من الماء" .
ثم سار حتى إذا كان ببعض الطريق جعلوا يقولون : تخلف فلان ، فيقول : دعوه ، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه .
وتلوم على أبي ذر بعيره ، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً .
و"نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله ، فنظر ناظر المسلمين فقال : يا رسول الله ! إن هذا الرجل يمشي على الطريق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن أبا ذر، فلما تأملوه ، قالوا : يا رسول الله ! هو والله أبو ذر. فقال : رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده" .
وفي صحيح ابن حبان عن أم ذر قالت : "لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : وما لي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الأرض ، وليس عندي ثوب يسعك كفناً ، ولا يدان لي في تغيبك ؟ فقال : أبشري ولا تبكي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر -وأنا فيهم- :ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، يشهده عصابة من المسلمين ، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعة ، فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، فأبصري الطريق ،. فكنت أشتد إلى الكثيب أتبصر ، ثم أرجع فأمرضه. فبينا أنا وهو كذلك، إذا أنا برجال على رحالهم، كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم ، قالت : فأشرت إليهم . فأسرعوا إلي حتى وقفوا علي ، فقالوا : يا أمة الله ! ما لك؟ قلت : امرؤ من المسلمين يموت تكفنوه . قالوا : من هو ؟ قلت : أبو ذر ، قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت : نعم ، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ، وأسرعوا إلي حتى دخلوا عليه . فقال لهم : أبشروا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وذكر الحديث - ثم قال : وإنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي ولامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي ، أو لها ، فإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً ، أو بريداً أو نقيباً . وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتى من الأنصار . قال : يا عم ، أنا أكفنك في ردائي هذا . وفي ثوبي في عيبتي من غزل أمي ، قال : فأنت تكفني ، فكفنه الأنصاري ، وأقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان" .
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة . فصالحه وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية ، وكتب لهم كتاباً فهو عندهم .
ثم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة ، وقال لخالد : إنك تجده يصيد البقر ، فخرج خالد ، حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة -وهو على سطح له- فبانت البقر تحك بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال: لا والله، قالت : فمن يترك مثل هذه ؟ قال : لا أحد . ثم نزل فأمر بفرسه فأسرج له ، وركب معه نفر من أهل بيته . فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذته وقتلوا أخاه ، وقدم به خالد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية ، ثم خلى سبيله ، فرجع إلى قريته .
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة ، ثم انصرف إلى المدينة . قال : وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي : أن ابن مسعود كان يحدث ، قال : قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، فأتبعتها أنظر إليها ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وإذا عبد الله ذو البجادين -والبجاد الكساء الأسود- المزني قد مات ، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وأبو بكر وعمر ، يدليانه إليه ، وهو يقول : أدليا إلي أخاكما ، فأدلياه إليه. فلما هيأه لشقه ، قال : اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه ، فأرض عنه ، قال : يقول عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة .
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، حتى كان بينه وبين المدينة ساعة ، وكان أصحاب مسجد الضرار أتوه -وهو يتجهز إلى تبوك- فقالوا : يا رسول الله ! إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، وإنا نحب أن تصلي فيه ، فقال : إني على جناح سفر ، ولو قدمنا إن شاء الله لأتيناكم .
فلما نزل بذي أوان ، جاءه خبر المسجد من السماء ، فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي ، فقال :أنطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه ، وحرقاه ، فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف -وهم رهط مالك بن الدخشم- فقال لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي . فدخل إلى أهله ، فأخذ سعفاً من النخل . فأشعل فيه ناراً ، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه -وفيه أهله- فحرقاه وهدماه . وأنزل الله سبحانه : " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين " إلى قوله : " والله عليم حكيم " .
قال ابن عباس في الآية : هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجداً، فقال لهم أبو عامر الفاسق : ابنوا مسجدكم ، واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآت بجند من الروم ، فأخرج محمداً وأصحابه. فلما فرغوا من بنائه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا قد فرغنا من بناء مسجدنا ، ونحب أن تصلي فيه ، وتدعو بالبركة ؟ فأنزل الله عز وجل : " لا تقم فيه أبدا " إلى قوله : " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " ، يعني الشك ، " إلا أن تقطع قلوبهم " يعني بالموت .
ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ، خرج الناس لتلقيه ، والنساء والصبيان والولائد يقلن :
طلع البـدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعـا للـه داع
وكانت غزوة تبوك أخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وأنزل الله فيها سورة براءة .
وكانت تسمى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعده المبعثرة، لما كشفت من سرائر المنافقين وخبايا قلوبهم .
وفي غزوة تبوك : كانت قصة تخلف كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية الواقفي -ممن شهدوا بدراً- ولم يكن لهم عذر في التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، جاء المعذرون من الأعراب من المنافقين ، يحلفون أنهم كانوا معذورين ، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأرجأ كعب بن مالك وصاحبيه حتى أنزل الله في شأنهم وفي توبتهم -وكانوا من خيار المؤمنين- : " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا " الآيتين ، خلفهم الله وأخر توبتهم ليمحصهم ويطهرهم من ذنب تأخرهم ، لأنهم كانوا من الصادقين .

اسير الصحراء 04-26-2006 07:52 PM

وفود العرب إلى رسول الله :
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، ضربت إليه أكباد الإبل ، تحمل وفود العرب من كل وجه ، في سنة تسع ، وكانت تسمى سنة الوفود .
قال ابن إسحاق : وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذلك : أن قريشاً كانوا إمام الناس وهداتهم ، وأهل البيت والحرم ، وصريح ولد إسماعيل عليه السلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك . وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، عرفت العرب أن لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عداوته ، فدخلوا في دين الله أفواجاً . كما قال الله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " .

اسير الصحراء 04-26-2006 07:52 PM

وفد بني تميم :

فقدم عليه عطارد بن حاجب التميمي ، في أشراف من بني تميم ، جاؤوا في أسرى بني تميم ، الذين أخذتهم سرية عيينة بن حصن الفزاري في المحرم من هذه السنة . وكان عيينة قد أخذ أحد عشر رجلاً ، وإحدى وعشرين امرأة ، وثلاثين صبياً ، وساقهم إلى المدينة ، فقدم رؤساء بني تميم فيهم . فلما دخلوا المسجد ، نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات -وهو في بيته- أن اخرج إلينا ، فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون* ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم " .
فلما خرج إليهم قالوا : جئنا لنفاخرك ، فائذن لشاعرنا وخطيبنا ، قال : أذنت لخطيبكم ، فقام عطارد ، فخطب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس : قم ، فأجب الرجل، فقام ثابت فخطب وأجابه . وقام الزبرقان بن بدر فقال :
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا من الشواء إذا لم يؤنس القزع
إلى أن قال :
إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد إلا كذلك عند الفخر نرتفع
في أبيات ذكرها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان : قم فأجب الرجل فقام ، فقال :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقـوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم: نفعوا
سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع
إن كان في الناس سباقون بعدهم فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
إلى أن قال :
لا يبخلون على جار بفضلهم ولا يمسهم من مطمع طبع
لا يفخرون إذا نالوا عدوهم وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها إذا الزعانف من أظفارها خشعوا
إلى أن قال :
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم إذا تفرقت الأهواء والشيع
أهدي لهم مدحتي قلت ووزاره فيما يحب لسان حائك صنع
وقال الزبرقان أيضاً :
آتيناك كيما يعلم الناس فضلنا إذا احتفلوا عند احتضار المواسم
فإنا ملوك الناس في كل موطن وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإنا نذود المعلمين إذا انتخوا ونضرب رأس الأغيد المتفاخم
وأن لنا المرباع في كل غارة تغير بنجد أو بأرض الأعاجم
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
هل المجد إلا السؤدد العود والندى وجاه الملوك واحتمال العظائم؟
نصرنا وآوينا النبي محمداً على أنف راض من معذ وراغم
إلى أن قال :
ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا على دينه بالمرهفات الصوارم
ونحن ولدنا من قريش عظيمها ولدنا نبي الخير من آل هاشم
بني دارم لا تفخروا إن فخركم يعود وبالاً عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخزون ؟ وأنتم لنا خول ما بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم: أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا ولا تلبسوا زياً كزي الأعاجم
فلما فرغ حسان ، قال الأقرع بن حابس : إن هذا الرجل لمؤتى، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا . فلما فرغ القوم أسلموا ، وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحسن جوائزهم

اسير الصحراء 04-26-2006 07:53 PM

وفد طيء :
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيء ، فيهم زيد الخيل -وهو سيدهم- فعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم .
قال ابن إسحاق : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما حدثني من لا أتهم من رجال طيء- : ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ، ثم جاءني ، إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل . فإنه لم يبلغ كل ما فيه ، ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم : زيد الخير ، وأقطعه فيداً وأرضين معه ، وكتب له بذلك كتاباً . فخرج من عنده راجعاً إلى قومه ، فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد -يقال له : فردة- أصابته الحمى بها فمات ، فعمدت امرأته إلى ما كان معه من الكتب التي أقطع له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحرقتها بالنار

اسير الصحراء 04-26-2006 07:53 PM

وفد عبد القيس :
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود العبدي في وفد عبد القيس ، وكان نصرانياً . فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على ديني ، وإني تارك ديني لدينك . فتضمن لي بما فيه ؟ قال : نعم ، أنا ضامن لذلك ، إن الذي أدعوك إليه خير من الذي كنت عليه ، فأسلم وأسلم أصحابه . فكان حسن الإسلام صلباً في دينه ، حتى هلك ، وقد أدرك الردة .
وكان في الوفد الأشج، الذي "قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم ، والأناة " .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي -قبل فتح مكة- إلى المنذر بن ساوى العبدي ، فأسلم وحسن إسلامه . ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل ردة أهل البحرين . والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:41 AM

وفد بني حنيفة : فيهم مسيلمة :
وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة الكذاب ، فأتوه وخلفوا مسيلمة في رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا : يا رسول الله ! إنا خلفنا صاحباً لنا في رحالنا يحفظها لنا . فأمر له بمثل ما أمر به للقوم ، وقال : أما إنه ليس بشركم مكاناً ، يعني : لحفظه ضيعة أصحابه . ثم انصرفوا فلما انتهوا إلى اليمامة ، ارتد عدو الله وتنبأ، وقال : إني أشركت في الأمر معه . وقال للوفد: ألم يقل لكم : أما إنه ليس بشركم مكاناً ، ما ذاك إلا لما كان يعلم أني أشركت في الأمر معه . ثم جعل يسجع لهم السجعات ، مضاهاة للقرآن، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة.
وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإني أشركت في الأمر معك . وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين .
وقال للرجلين اللذين أتيا بكتابه : ما تقولان أنتما؟ فقالا : نقول كما قال ، "فقال : أما والله ، لولا أن الرسل لا تقتل ، لضربت رقابكما" ، وذلك في آخر سنة عشر .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:42 AM

حجة أبي بكر بالناس :

ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك -بقية رمضان وشوال وذي القعدة- ثم بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج ليقيم للناس حجهم . وأهل الشرك على دينهم ومنازلهم من حجهم . فخرج أبو بكر في ثلاثمائة من المدينة . وبعث معه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة . قلدها وأشعرها بيده ، ثم نزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه ، فأرسل بها علي بن أبي طالب على ناقته العضباء ، ليقرأ براءة على الناس . وينبذ إلى كل ذي عهد عهده ، فلما لقي أبا بكر قال له : أمير ، أو مأمور ؟ فقال علي : بل مأمور، فلما كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب ، فقال : "يا أيها الناس ! لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته

اسير الصحراء 04-27-2006 12:42 AM

حجة الوداع :
فلما دخل ذو القعدة ، تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، وأمرهم أن يلقوه. فخرج معه من كان حول المدينة وقريباً منها . وخرج المسلمون من القبائل القريبة والبعيدة حتى لقوه في الطريق ، وفي مكة ، وفي منى وعرفات . وجاء علي من اليمن مع أهل اليمن ، وهي حجة الوداع .
فخرج لها لخمس بقين من ذي القعدة في آخر سنة عشر ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وساق معه الهدي . فأرى الناس مناسكهم، وعلمهم سنن حجهم، وهو يقول لهم ويكرر عليهم القول :يا أيها الناس ! خذوا عني مناسككم، فلعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا .
و"لما كان بمنى خطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :أيها الناس ، اسمعوا قولي، فإني لا أدري ، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا . أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم وأغراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم . وكل رباً موضوع ، وأول رباً أضعه : ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله . وإن كل دم في الجاهلية موضوع ، وأول دم أضعه دم [ابن] ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وإني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به ما لن تضلوا بعده -كتاب الله- وأنتم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت ، وأديت ، ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ، وينكبها إليهم ، ويقول : اللهم اشهد -ثلاث مرات" .
وكانت هذه الحجة تسمى حجة الوداع ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها .
فلما انقضى حجه ، رجع إلى المدينة ، فأقام صلى الله عليه وسلم بقية ذي الحجة والمحرم وصفر .
ثم ابتدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي مات فيه في آخر صفر

اسير الصحراء 04-27-2006 12:43 AM

بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء :
ولما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة . أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم ، فلما كان من الغد دعا أسامة بن زيد ، وأمره أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة ، وأن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون والأنصار .
ثم استبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بعث أسامة -وهو في وجعه- فخرج عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر-وكان المنافقون قد قالوا في إمارة أسامة : أمر غلاماً حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ، وخرج عاصباً رأسه -وكان قد بدأ به الوجع- فصعد المنبر "فحمد الله وأثنى عليه ؟ ثم قال : أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة ، فلئن طعنتم في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه . وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة ، وإن كان أبوه لمن أحب الناس إلي وإن هذا لمن أحب الناس إلي من بعده" ، ثم نزل .
وانكمش الناس في جهازهم ، فاشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه . وخرج أسامة بجيشه ، فعسكر بالجرف ، وتتام إليه الناس ، فأقاموا لينظروا ما الله تبارك وتعالى قاض في رسوله صلى الله عليه وسلم

اسير الصحراء 04-27-2006 12:43 AM

مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال ابن إسحاق : حدثت عن أسامة ، قال : لما ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم ، هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة ، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أصمت ، فلا يتكلم . وجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي ، أعرف أنه يدعو لي .
قال ابن إسحاق : وحدث عن أبي مويهبة ! مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل ، فقال : يا أبا مويهبة ! قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع ، فانطلق معي . فانطلقت معه ، فلما وقف عليهم ، قال : السلام عليكم - يا أهل المقابر ! ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه . أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى . ثم أقبل علي ، فقال : إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها [ثم الجنة]، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة . فقلت : بأبي أنت وأمي ، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة قال : لا والله ، يا أبا مويهبة! قد اخترت لقاء ربي والجنة . ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف.
فبدأ به وجعه ، فلما استعز به ، دعا نساءه فاستأذنهن : أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها ، فأذن له .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : "خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله، فبكى أبو بكر ، فتعجبنا لبكائه : أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير ! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير . وكان أبو بكر أعلمنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أمن الناس علي في صحبته وماله : أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً -غير ربي- لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته . لا يبقين في المسجد باب إلا سد ، إلا باب أبي بكر" .
وفي الصحيح : "أن ابن عباس وأبا بكر مرا بمجلس للأنصار ، وهم يبكون. فقالا: ما يبكيكم ؟ قالوا : ذكرنا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فخرج ، وقد عصب على رأسه بحاشية برد . فصعد المنبر -ولم يصعده بعد ذلك اليوم- فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أوصيكم بالأنصار خيراً ، فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم ، وبقي الذي لهم . فاقبلوا من محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم" ،
وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال : "اشتد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : مروا أبا بكر ، فليصل بالناس. قالت عائشة : يا رسول الله ! إنه رجل رقيق ، إذا قام مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ؟ قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فعادت . فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، فإنكن صواحب يوسف ، فأتاه الرسول . فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : ووالله ما أقول إلا أني أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلاً قام مقامه أبداً ، وأن الناس سيتشاءمون به في كل حدث كان . فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبي بكر" .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:44 AM

موت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال الزهري : حدثني أنس قال : "كان يوم الإثنين الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر وفتح الباب . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام على باب عائشة . فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم -فرحاً به ، حين رأوه ، وتفرجوا عنه- فأشار إليهم : أن اثبتوا على صلاتكم ، قال : وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سروراً ، لما رأى من هيأتهم في صلاتهم . وما رؤي أحسن منه هيئة تلك الساعة . قال : ثم رجع ، وانصرف الناس ، وهم يرون أنه قد أفرق من وجعه . وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم" .
قال ابن إسحاق : قال الزهري : حدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر ، فقال : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات، ولكنه قد ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل مات. ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حين ، كما رجع موسى ، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات" .
قال : وأقبل أبو بكر ، حتى نزل على باب المسجد . حين بلغه الخبر -وعمر يكلم الناس- فلم يلتفت إلى شئ ، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى في ناحية البيت ، عليه بردة حبرة . فأقبل حتى كشف عن وجهه . ثم أقبل عليه فقبله . ثم قال : بأبي أنت وأمي ، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً . ثم رد البرد على وجهه . وخرج -وعمر يكلم الناس- فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم . فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس . فلما سمع الناس كلام أبي بكر أقبلوا عليه ، وتركوا عمر . فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات . ومن كان يعبد الله تعالى ، فإن الله حي لا يموت . ثم تلا هذه الآية : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " .
قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت ، حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، قال : وأخذها الناس عن أبي بكر ، فإنما هي في أفواههم .
قال أبو هريرة : "فقال عمر : فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعثرت حتى وقعت على الأرض ، ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات

اسير الصحراء 04-27-2006 12:45 AM

حديث السقيفة :
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم : انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة . واعتزل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة . وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر [وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل ، فأتى آت إلى أبي بكر وعمر]، فقال : إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس من حاجة ، فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته لم يفرغ من أمره ، قد أغلق دونه الباب أهله . فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، حتى ننظر ماهم عليه .
قال ابن إسحاق : وكان من حديث السقيفة : أن عبد الله بن أبي بكر حدثني عن محمد بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عوف قال : -وكنت في منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر في آخر حجة حجها عمر- قال : فرجع عبد الرحمن من عند عمر ، فوجدني بمنزله بمنى أنتظره ، وكنت أقرئه القرآن . [قال ابن عباس] : فقال لي [عبد الرحمن بن عوف] : لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين ، فقال : هل لك في فلان ؟ يقول : والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت . قال : فغضب عمر ، وقال : إني -إن شاء الله- لقائم العشية في الناس ، فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم ، قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين ! لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، وإنهم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس . وإني أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ، ولا يعوها ولا يضعوها على مواضعها . فأمهل ، حتى تقدم المدينة . فإنها دار السنة ، وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس ، فتقول ما قلت بالمدينة متمكناً ، فيعي أهل الفقه مقالتك ، ويضعوها على مواضعها . فقال عمر : أما والله -إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة .
قال ابن عباس : فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة، فلما كان يوم الجمعة ، عجلت الرواح حين زالت الشمس ، فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه ، تمس ركبتاي ركبتيه ، فلم أنشب أن خرج عمر ، فما رأيته مقبلاً، فقلت لسعيد : ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف . فأنكر علي سعيد بن زيد ذلك . وقال : وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله ؟ فجلس عمر على المنبر .
فلما سكت المؤذن ، فقام . فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها ، ولا أدري لعلها بين يدي أجلي ؟ فمن عقلها ووعاها فليأخذ بها حيث انتهت به راحلته . ومن خشي أن لا يعيها ، فلا أحل لأحد أن يكذب علي . إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه : آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها . ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . فأخشى -إن طال بالناس زمان- أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله . وإن الرجم في كتاب الله ، حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف . ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من الكتاب : "لاترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم -أو كفر لكم- أن ترغبوا عن آبائكم ، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم . فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله"، ثم إنه قد بلغني أن فلاناً قال : لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً. فلا يغترن امرؤ يقول : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت . ألا وإنها والله قد كانت كذلك ، إلا أن الله وقى شرها . وليس فيكم من تنقطع دونه الأعناق إليه مثل أبي بكر ، فمن بايع رجلاً عن غير مشورة المسلمين ، فإنه لا بيعة له هو ، ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا . إنه كان من خبرنا -حين توفى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم- أن الأنصار خالفونا، فاجتمعوا بأشرافهم في سقيفه بني ساعدة. وتخلف عنا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ، ومن معهما . واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر . فقلت لأبي بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء الأنصار . فانطلقنا نؤمهم ، حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم . وقالا لنا : أين تريدون يا معاشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار . فقالا : لا عليكم ، ألا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم. قال: قلت : والله لنأتينهم. فانطلقنا ، حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة . فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة ، قلت : ما له ؟ قالوا : وجع. فلما جلسنا ، تشهد خطيبهم. فأثنى على الله عز وجل بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله ، وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين ، رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم ، قال: وإذا هم يريدون أن يختارونا من أصلنا ، ويغتصبونا الأمر. فلما سكت أردت أن أتكلم -وقد زورت في نفسي مقالة قد أعجبتني ، أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر. وكنت أداري منه بعض الحد . فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر. فكرهت أن أعصيه . فتكلم -وهو كان أعلم مني وأحكم وأحلم وأوقر- فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني من تزويري إلا قالها في بديهته ، أو أفضل ، حتى سكت . فقال : أما بعد ، فما ذكرتم فيكم من خير ، فأنتم له أهل . ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش . هم أوسط العرب نسباً وداراً . وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا الآن أيهما شئتم . فأخذ بيدي ، وبيد أبي عبيدة عامر بن الجراح -وهو جالس بيننا- فلم أكره شيئاً مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم ، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر . قال : فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم أمير ، يا معشر قريش . قال : فكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات، حتى خشينا الاختلاف . فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر . فبسطها ، فبايعته . ثم بايعه المهاجرون ، ثم بايعه الأنصار . ونزونا على سعد بن عبادة ، فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة . قال : قتل الله سعد بن عبادة

اسير الصحراء 04-27-2006 12:45 AM

بيعة العامة لأبي بكر :
ولما بويع أبو بكر في السقيفة ، وكان الغد ، جلس أبو بكر على المنبر . فقام عمر قبل أبي بكر فتكلم فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أيها الناس . إني قد قلت لكم بالأمس مقالة ، ما كانت وما وجدتها في كتاب الله . ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا -يقول : يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله صلى الله عليه وسلم . فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هدى له رسوله . إن الله قد جمعكم على خيركم -صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثاني اثنين إذ هما في الغار- فقوموا فبايعوه . فبايع الناس أبا بكر البيعة العامة ، بعد بيعة السقيفة .
ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه ، فحمد الله ، وأثنى عليه بالذي هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإني قد وليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني . وإن أسأت فقوموني . الصدق أمانة ، والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوي عندي ، حتى أريح عليه حقه ، إن شاء الله . والقوي فيكم ضعيف عندي ، حتى آخذ الحق منه ، إن شاء الله . لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله . فإذا عصيت الله ورسوله ، فلا طاعة لي عليكم

اسير الصحراء 04-27-2006 12:46 AM

فضيلة أبي بكر الصديق وخلافته الراشدة :
وعن ربيعة -أحد الصحابة- رضي الله عنهم قال : قلت لأبي بكر رضي الله عنه : ما حملك على أن تلي أمر الناس ، وقد نهيتني أن أتأمر على اثنين ؟ قال : لم أجد من ذلك بداً ، خشيت على أمة محمد الفرقة ، وفي رواية : تخوفت أن تكون فتنة ، تكون بعدها ردة .
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اشرأب النفاق ، وارتدت العرب ، وانحازت الأنصار. فلو نزل بالجبال الراسيات ، ما نزل بأبي لهاضها . فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بفضلها .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :والذي لا إله إلا هو ، لولا أن أبا بكر استخلف، ما عبد الله -ثم قال الثانية- ثم قال الثالثة- فقيل له : مه ، يا أبا هريرة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام . فلما نزل بذي خشب س قبض رسول الله ، وارتدت العرب ، واجتمع إليه الصحابة . فقالوا : رد هؤلاء ، توجه هؤلاء إلى الروم ، وقد ارتدت العرب حول المدينة ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو ، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا حللت لواء عقده . فوجه أسامة ، فجعل لا يمر بقبائل يريدون الارتداد ، إلا قالوا : لو لا أن لهؤلاء قوة ، ما خرج مثل هؤلاء من عندهم . ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم . فلقوا الروم ، فهزموهم ، ورجعوا سالمين ، فثبتوا على الإسلام ، ولله الحمد .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:46 AM

قصة الردة - أعاذنا الله منها - :
قد تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباره بالفتن الكائنة بعده ، وإنذاره عنها ، وإخباره خاصة عن الردة .
من ذلك : ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه :"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب ، فكرهتهما . فنفختهما فطارا ، فأولتهما كذابين يخرجان" .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من نجا منهن فقد نجا : من موتي ، ومن قتل خليفة مصطبر بالحق معطيه ، ومن الدجال" .
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يقولوا: لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها؟، فقال أبو بكر : فإن الزكاة من حقها . والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها . قال عمر : فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق . قال عمر : والله لرجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في قتال أهل الردة" .
وذكر يعقوب بن سعيد بن عبيد ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن جماعة قالوا : كان أبو بكر أمير الشاكرين : الذين ثبتوا على دينهم ، وأمير الصابرين : الذين صبروا على جهاد عدوهم -وهم أهل الردة- وذلك : أن العرب افترقت في ردتها . فقالت فرقة : لو كان نبياً ما مات . وقالت فرقة : انقضت النبوة بموته . فلا نطيع أحداً بعده . وفي ذلك يقول قائلهم :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟
أيورثها بكراً إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وقالت فرقة : نؤمن بالله . وقال بعضهم : نؤمن بالله ، ونشهد أن محمداً رسول الله ، ولكن لا نعطيكم أموالنا .
فجادل الصحابة أبا بكر رضي الله عنهم ، وقالوا : احبس جيش أسامة ، فيكون أماناً بالمدينة . وارفق بالعرب حتى يتفرج هذا الأمر . فلو أن طائفة ارتدت . قلنا : قاتل بمن معك من ارتد. وقد أصفقت العرب على الارتداد . وقدم على أبي بكر عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب . فدخلوا على رجال من المهاجرين ، فقالوا : إنه قد ارتد عامة من وراءنا عن الإسلام ، وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن تجعلوا لنا جعلاً كفيناكم . فدخل الصحابة على أبي بكر ، فعرضوا عليه ذلك ، وقالوا : نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ، ويكفيانك من وراءهما ، حتى يرجع إلينا أسامة وجيشه ، ويشتد أمرك ، فإنا اليوم قليل في كثير ، فقال أبو بكر : فهل ترون غير ذلك ؟ قالوا : لا. قال : قد علمتم أن من عهد نبيكم إليكم المشورة فيما لم يمض فيه أمر من نبيكم ، ولا نزل به الكتاب عليكم . وأنا رجل منكم ، تنظرون فيما أشير به عليكم ، وإن الله لن يجمعكم على ضلالة ، فتجتمعون على الرشد في ذلك . فأما أنا، فأرى أن ننبذ إلى عدونا. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وألا ترشون على الإسلام ، فنجاهد عدوه كما جاهدهم . والله لو منعوني عقالاً ، لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه . وأما قدوم عيينة وأصحابه إليكم : فهذا أمر لم يغب عنه عيينة ، هو راضيه ، ثم جاء له . ولو رأوا ذباب السيف ، لعادوا إلى ما خرجوا منه ، أو أفناهم السيف ، فإلى النار . قتلناهم على حق منعوه وكفر اتبعوه . فبان للناس أمرهم . فقالوا له : أنت أفضلنا رأياً ، ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر رضي الله عنه الناس بالتجهز ، وأجمع على المسير بنفسه .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما صدر من الحج سنة عشر- وقدم المدينة أقام حتى رأى هلال المحرم سنة إحدى عشرة ، فبعث المصدقين في العرب .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:46 AM

نفع الله طيئاً بعدي بن حاتم :
فلما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا ، فمنهم من رجع . ومنهم من أدى إلى أبي بكر ، منهم عدي بن حاتم ، كانت عنده إبل عظيمة من صدقات قومه . فلما ارتد [من ارتد] ، وارتدت بنو أسد -وهم جيرانهم- اجتمعت طيء إلى عدي . فقالوا: إن هذا الرجل قد مات ، وقد انتقض الناس بعده ، وقبض كل قوم ما كان في أيديهم من صدقات ، فنحن أحق بأموالنا من شذاذ الناس .
فقال : ألم تعطوا العهد طائعين غير مكرهين ؟ قالوا : بلى ، ولكن حدث ما ترى ، وقد ترى ما صنع الناس .
فقال : والذي نفس عدي بيده ، لا أخيس بها أبداً ، فإن أبيتم ، فوالله لأقاتلنكم، فليكونن أول قتيل يقتل على وفاء ذمته: عدي بن حاتم ، أو يسلمها . فلا تطمعوا أن يسب حاتم في قبره ، وعدي ابنه من بعده . فلا يدعونكم غدر غادر إلى أن تغدروا . فإن للشيطان قادة عند موت كل نبي يستخف بها أهل الجهل ، حتى يحملهم على قلائص الفتنة . وإنما هي عجاجة لا ثبات لها ، ولا ثبات فيها ، إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة من بعده يلي هذا الأمر . وإن لدين الله أقواماً سينهضون ويقومون ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذؤابتيه في السماء . لئن فعلتم ليقارعنكم عن أموالكم ونسائكم بعد قتل عدي وغدركم ، فأي قوم أنتم عند ذلك ؟ فلما رأوا منه الجد كفوا عنه ، وأسلموا له .
فلما كان زمن عمر : رأى من عمر جفوة ، فقال له عدي : ما أراك تعرفني ؟ قال عمر : بلى والله ، والله يعرفك في السماء . أعرفك والله ، أسلمت إذ كفروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا ، وأيم الله أعرفك .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:47 AM

قتال أهل الردة :

ولما كان من العرب ما كان ، ومنع من منع منهم الصدقة . جد بأبي بكر الجد في قتالهم . وأراه الله رشده فيهم ، وعزم على الخروج بنفسه . فخرج في مائة من المهاجرين والأنصار ، وخالد يحمل اللواء ، حتى نزل بقعاء، يريد أن يتلاحق الناس ، ويكون أسرع لخروجهم ، ووكل بالناس محمد بن مسلمة يستحثهم . وأقام ببقعاء أياماً ينتظر الناس . ولم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا خرج .
فقال عمر : ارجع يا خليفة رسول الله ، تكن للمسلمين فئة ، فإنك إن تقتل يرتد الناس ، ويعلو الباطل الحق ، فدعا زيد بن الخطاب ليستخلفه ، فقال : قد كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أرزقها . وأنا أرجو أن أرزقها في هذا الوجه . وإن أمير الجيش لا ينبغي أن يباشر القتال بنفسه .
فدعا أبا حذيفة ابن عتبة ، فعرض عليه ذلك ، فقال مثلما قال زيد ، فدعا سالماً مولى أبي حذيفة، فأبى عليه. فدعا خالداً فأمره على الناس ، وكتب معه هذا الكتاب :
بسم الله الرحمن الرحيم ....
هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد ، حين بعثه لقتال من رجع عن الإسلام إلى ضلالة الجاهلية ، وأماني الشيطان ، وأمره : أن يبين لهم الذي لهم في الإسلام ، والذي عليهم ، ويحرص على هداهم . فمن أجابه قبل منه ، وإنما يقاتل من كفر بالله على الإيمان بالله . فإذا أجاب إلى الإيمان ، وصدق إيمانه لم يكن له عليه سبيل . وكان الله حسيبه بعد في عمله . ولا يقبل من أحد شيئاً أعطاه إياه إلا الإسلام ، والدخول فيه ، والصبر به وعليه ولا يدخل في أصحابه حشواً من الناس ، حتى يعرف : علام اتبعوه ، وقاتلوا معه ؟ فإني أخشى أن يكون معكم ناس يتعوذون بكم ، ليسوا بكم ، ولا على دينكم ، فيكونون عوناً عليكم . وارفق بالمسلمين في مسيرهم ومنازلهم ، وتفقدهم ، ولا تعجل بعض الناس عن بعض في المسير، ولا في الارتحال . واستوص بمن معك من الأنصار خيراً ، فإن فيهم ضيقاً ومرارة وزعارة ، ولهم حق وفضيلة وسابقة ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقبل من محسنهم ، وتجاوز عن مسيئهم .
ويروى أن أبا بكر كتب مع هذا كتاباً آخر ، وأمر خالداً أن يقرأه في كل مجمع ، وهو :

اسير الصحراء 04-27-2006 12:47 AM

كتاب أبي بكر لأمرائه :
بسم الله الرحمن الرحيم . . .
من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى من بلغه كتابي هذا ، من عامة الناس أو خاصتهم ، أقام على الإسلام أو رجع عنه . سلام على من اتبع الهدى، ولم يرجع بعد الهدى إلى الضلالة والعمى، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، الهادي غير المضل . أرسله بالحق من عنده إلى خلقه ، بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه ، وسراجاً منيراً ، لينذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين . فهدى الله بالحق من أجاب إليه ،، وضرب بالحق من أدبر عنه ، حتى صاروا إلى الإسلام طوعاً وكرهاً. ثم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك أجله . وقد كان الله بين له ذلك لأهل الإسلام في الكتاب الذي أنزل عليه ، فقال :" إنك ميت وإنهم ميتون " ، وقال : " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون " الآية ، وقال للمؤمنين : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية، فمن كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله وحده ، لا شريك له ، فإن الله له بالمرصاد حي قيوم لا يموت ، ولا تأخذه سنة ولا نوم ، حافظ لأمره منتقم من عدوه ومجزيه ، وإني أوصيكم أيها الناس [بتقوى الله ، وأحضكم على حظكم ونصيبكم من الله ، وما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم . وأن تهتدوا بهداه ، وتعتصموا بدين الله] ، فإن كل من لم يحفظ الله ضائع ، وكل من لم يصدقه كاذب ، وكل من لم يسعده الله شقي ، وكل من لم يرزقه محروم ، وكل من لم ينصره الله مخذول . فاهتدوا بهدى الله ربكم ، فإنه من يهدي الله فهو المهتدي . ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
وإنه قد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه ، بعد أن أقر بالإسلام ، وعمل به ، اغتراراً بالله ، وجهالة بأمر الله وطاعة للشيطان. قال الله تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " وإني قد بعثت إليكم خالداً في المهاجرين والأنصار . والتابعين لهم بإحسان . وأمرته أن لا يقاتل أحداً حتى يدعوه إلى داعية الله ، فمن دخل في دين الله وعمل صالحاً قبل ذلك منه ، ومن أبى فلا يبقي على أحد ، ويحرقهم بالنار ، ويسبي الذراري والنساء .
وعن عروة بن الزبير قال : جعل أبو بكر يوصي خالداً ، ويقول: عليك بتقوى الله ، والرفق بمن معك . أهل السابقة من المهاجرين والأنصار ، فشاورهم ، ثم لا تخالفهم . وقدم أمامك الطلائع ترتد لك المنازل ، وسر في أصحابك على تعبئة جيدة، فإن أعطاك الله الظفر على أهل اليمامة ، فأقل البقيا عليهم ، إن شاء الله وإياك أن تلقاني غداً بما يضيق به صدري منك . اسمع عهدي ووصيتي، ولا تغيرن على دار سمعت فيها أذاناً ، حتى تعلم ما هم عليه . واعلم أن الله يعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك . واعلم أن رعيتك تعمل بما تراك تعمل ، تعاهد جيشك ، وانههم عما لا يصلح لهم . فإنما تقاتلون من تقاتلون بأعمالكم ، وبهذا نرجو لكم النصر على أعدائكم ، سر على بركة الله تعالى .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:48 AM

ذكر مسير خالد إلى بزاخة وغيرها :
ولما سار خالد إلى بزاخة ، كان عدي بن حاتم معه ، وقد انضم إليه من طيء ألف ، فنزلوا بزاخة ، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام -وهي بطن من طيء- وكان عدي بن حاتم رضي الله عنه من الغوث . وقد همت جديلة أن ترتد ، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل ، فقال : أتريدون أن تصيروا سبة على قومكم؟ ولم يرجع رجل واحد من طئ ، وهذا عدي معه ألف رجل من طئ ، فكسرهم.
فلما نزل خالد بزاخة ، قال لعدي : ألا نسير إلى جديلة؟ قال : يا أبا سليمان ! أقاتل معك بيدين أحب إليك، أم بيد واحدة؟ فقال: بل يدين ، قال : فإن جديلة إحدى يدي . فكف عنهم . فجاءهم عدي ، فدعاهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، فحمد الله ، وسار بهم إلى خالد ، فلما رآهم صاح في أصحابه السلاح ، فلما جاؤوا حلوا ناحية ، فجاءهم خالد ورحب بهم ، فاعتذروا إليه. وقالوا : نحن لك حيث شئت . فجزاهم خيراً ، فلم يرتد من طيء رجل واحد .
فسار خالد على تعبئته ، وطلب إليه عدي أن يجعل قومه مقدمة أصحابه . فقال : أخاف أن أقدمهم ، فإذا ألجمهم القتال انكشفوا، فانكشف من معنا ، ولكن دعني أقدم قوماً صبراً ، لهم سوابق . فقال عدي : الرأي ما رأيت ، فقدم المهاجرين والأنصار . ولم يزل يقدم الطلائع منذ خرج من بقعاء، حتى قدم اليمامة . وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا بهم عند مواقيت الصلاة بالأذان لها ، فيكون ذلك دليلاً على إسلامهم .
فلما انتهوا إلى طليحة الأسدي ، وجدوه وقد ضربت له قبة ، وأصحابه حوله. فضرب خالد خيام عسكره على ميل أو نحوه ، وخرج يسير على فرس ، معه نفر من الصحابة ، فوقف قريباً من العسكر، ودعا بطليحة فخرج إليه ، فقال : إن من عهد خليفتنا إلينا : أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن تعود إلى ما خرجت منه . فأبى طليحة ، وكان عيينة بن حصن قد قال له : لا أبالك ، هل أنت مرينا؟ -يعني نبوتك- فقد رأيت ورأينا ما كان يأتي محمداً . قال : نعم ، فبعث عيوناً له ، لما أقبل خالد إليهم ، قبل أن يسمع الناس بإقباله . فقال : إن بعثتم فارسين في فرسين ، أغرين محجلين ، من بني نصر بن قعين، أتوكم من القوم بعين . فبعثوا كذلك ، فلقيا عيناً لخالد ، فأتوا به ، فزادهم فتنة . فلما أبى طليحة أن يجيب خالداً ، انصرف خالد إلى عسكره ، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل وعدي بن حاتم ، فلما كان من السحر نهض خالد ، فعبأ أصحابه ، ووضع ألويته مواضعها ، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب ، فتقدم به ، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار ، وطلبت طئ لواء ، فعقد لهم خالد لواء ، ودفعه إلى عدي . فلما سمع طليحة الحركة عبأ أصحابه ، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة ، فأخرج طليحة أربعين غلاماً جلداً ، فأقامهم في الميمنة ، وقال : اضربوا حتى تأتوا الميسرة ، فتضعضع الناس ، ولم يقتل أحد حتى أقامهم في الميسرة ، ففعلوا مثل ذلك ، وانهزم المسلمون . فقال خالد : يا معشر المسلمين ! الله ، الله . واقتحم وسط القوم وكر معه أصحابه ، فاختلطت الصفوف ، ونادى يومئذ مناد من طيء ، عندما حمل أولئك الأربعون : يا خالد ! عليك بسلمى وأجأ -جبلى طيء- فقال : بل إلى الله الملتجأ. ثم حمل فما رجع ، حتى لم يبق من الأربعين رجل واحد . وتراد الناس بعد الهزيمة ، واشتد القتال ، وأسر حبال بن أبي حبال ، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبي بكر ، فقال : اضربوا عنقي ، ولا تروني محمديكم هذا . فضربوا عنقه .
ولما اشتد القتال ، ، تزمل طليحة بكساء له ، وهم ينتظرون أن ينزل عليه الوحي ، فلما طال ذلك على أصحابه ، وهدتهم الحرب ، جعل عيينة يقاتل ويذمر الناس ، حتى إذا ألح المسلمون عليهم السيف ، أتى طليحة ، وهو في كسائه ، فقال : لا أبا لك هل أتاك جبريل بعد ؟ قال : لا والله ، قال : تباً لك سائر اليوم . ثم رجع عيينة فقاتل ، وجعل يحض أصحابه على القتال ، وقد ضجوا من وقع السيوف . فلما طال ذلك عليهم ، جاء إلى طليحة وهو متلفف بكسائه . فجبذه جبذة شديدة جلس منها ، وقال : قبح الله هذه من نبوة ، ما قيل لك بعد شئ ؟ قال : بلى ، قد قيل لي : عيينة إن ذلك رحى كرحاه ، وأمراً لن تنساه . فقال عيينة : أظن أن قد علم الله أنه سيكون لك حديث لن تنساه ، يا بني فزارة ! هكذا -وأشار تحت الشمس- انصرفوا . هذا والله كذاب ، ما بورك لنا ولا له فيما يطلب . فانصرفت فزارة ، وذهب عيينة وأخوه في آثارهما ، فأدرك عيينة فأسر ، وأفلت أخوه . ولما رأى طليحة ما فعل أصحابه خرج منهزماً ، فجعل أصحابه يقولون : ماذا تأمرنا ؟ وقد كان أعد فرسه ، وهيأ امرأته ، فوثب على فرسه وحمل امرأته وراءه ، ثم ولى هارباً ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل هكذا فليفعل . ثم هرب حتى قدم الشام . وذكر : أنه قال لأصحابه ، لما رأى انهزامهم . ويلكم ، ما يهزمكم ؟ فقال له رجل : أنا أخبرك ، إنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله ، وإنا نلقى قوماً كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه .
ولما ولى طليحة هارباً ، تبعه عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم . وكان طليحة قد أعطى الله عهداً : أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل ، فلما أدبر ناداه عكاشة بن محصن : ياطليحة ! فعطف عليه ، فقتل عكاشة ، ثم أدركه ثابت ، فقتله أيضاً طليحة ، ثم لحق المسلمون أصحاب طليحة فقتلوا وأسروا . وصاح خالد : لا يطبخن رجل قدراً ولا يسخن ماء ، إلا وأثفيته رأس رجل .
وتلطف رجل من بني أسد حتى وثب على عجز راحلة خالد ، فقال : أنشدك الله ، أن لا يكون هلاك مضر على يدك ، يا خالد ! حكمك في بني أسد . فنادى خالد : من قام فهو آمن ، فقام الناس كلهم . وسمعت بذلك بنو عامر ، فأعلنوا الإسلام . وأمر خالد بالحظائر أن تبنى ، ثم أوقد فيها النار . ثم أمر بالأسرى فألقيت فيها ، وألقي فيها يومئذ حامية بن سبيع الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه . وأخذت أم طليحة ، فعرض عليها الإسلام ، فوثبت . وأخذت فحمة من النار ، وهي تقول : يا موت عم صباحاً ، كافحته كفاحاً إذ لم أجد براحاً .
وذكر الواقدي : أن خالداً جمع الأسرى في الحظائر ، ثم أضرمها عليهم فاحترقوا أحياء ، ولم يحرق أحداً من فزارة .
فقيل لبعض أهل العلم : لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة ؟ فقال : بلغته عنهم مقالة سيئة ، وثبتوا على ردتهم .
وعن ابن عمر ، قال : شهدت بزاخة مع خالد ، فأظفرنا الله على طليحة ، وكنا كلما أغرنا على قوم سبينا الذراري ، واقتسمنا الأموال .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:48 AM

ذكر رجوع بني عامر وغيرهم إلى الإسلام :
ولما أوقع الله ببني أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة ، بث خالد السرايا ، ليصيبوا من قدروا عليه ممن هو على ردته ، وجعلت العرب تسير إلى خالد ، رغبة في الإسلام ، وخوفاً من السيف ، فمنهم من أصابته السرية ، فيقول : جئت راغباً في الإسلام ، وقد رجعت إلى ما خرجت منه . ومنهم من يقول : ما رجعنا ، ولكن منعنا أموالنا ، فقد سلمناها ، فليأخذ منها حقه . ومنهم من مضى إلى أبي بكر ، ولم يقرب خالداً .
ثم عمد خالد إلى جبلي طئ -أجأ وسلمى- فأتته عامر وغطفان يدخلون الإسلام ، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم . وأظهروا التوبة ، وأقاموا الصلاة ، وأقروا بالزكاة . فأمنهم خالد ، وأخذ عليهم العهود والمواثيق : لتبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار . فقالوا : نعم ، نعم .
وبعث بعيينة إلى أبي بكر مجموعة يداه في وثاقه ، فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد ، ويضربونه . ويقولون : أي عدو الله، أكفرت بالله بعد إيمانك ؟ فيقول : والله ما كنت آمنت بالله قط .
وأخذ خالد من بني عامر وغيرهم من أهل الردة -ممن بايعه على الإسلام- كل ما ظهر من سلاحهم ، واستحلفهم على ما غيبوا منه، فإذا حلفوا تركهم ، وإن أبوا شدهم أسرى حتى أتوا بما عندهم . فأخذ منهم سلاحاً كثيراً ، فأعطاه أقواماً يحتاجون إليه في قتال عدوهم ، وكتبه عليهم ثم ردوه بعد .
وحدث يزيد بن أبي شريك الفزاري عن أبيه ، قال : قدمت مع أسد وغطفان على أبي بكر وافداً ، حين فرغ خالد منهم . فقال أبو بكر : اختاروا بين خصلتين : حرب مجلية ، أو سلم مخزية . فقال خارجة بن حصن : هذه الحرب المجلية قد عرفناها ، فما السلم المخزية ؟ قال : تشهدون أن قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . وأن تردوا علينا ما أخذتم منا ، ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم . وأن تدوا قتلانا ، كل قتيل مائة بعير ، منها أربعون في بطونها أولادها ، ولا ندي قتلاكم . ونأخذ منكم الحلقة والكراع ، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم ، أو يرى منكم إقبالاً لما خرجتم منه . فقال خارجة : نعم ، يا خليفة رسول الله . فقال أبو بكر: عليكم عهد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار. وتعلمون أولادكم ونساءكم، ولا تمنعوا فرائض الله في أموالكم . قالوا : نعم. قال عمر : يا خليفة رسول الله ، كل ما قلت كما قلت ، إلا أن يدوا من قتل منا، فإنهم قوم قتلوا في سبيل الله . فتتابع الناس على قول عمر .
فقبض أبو بكر كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع ، فلما توفي رأى عمر : أن الإسلام قد ضرب بجرانه ، فدفعه إلى أهله وإلى ورثة من مات منهم .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:49 AM

مسير خالد إلى اليمامة :
فلما فرغ خالد من بزاخة وبني عامر ، أظهر أن أبا بكر عهد إليه : أن يسير إلى أرض بني تميم ، وإلى اليمامة . فقال ثابت بن قيس -وهو على الأنصار ، وخالد على جماعة المسلمين- ما عهد إلينا ذلك ، وليس بنا قوة . وقد كل المسلمون ، وعجف كراعهم، فقال خالد : لا أستكره أحداً ، وسار بمن تبعه . وأقامت الأنصار يوماً أو يومين ، ثم تلاومت فيما بينها . وقالت : والله ما صنعنا شيئاً ، والله لئن أصيب القوم ليقولن خذلتموهم ، وإنها لمسبه عارها باق إلى آخر الدهر ، ولو أصابوا فتحاً ، إنه لخير منعتموه ، فابعثوا إلى خالد يقيم حتى تلحقوه . فبعثوا إليه . فأقام حتى لحقوه ، فاستقبلهم في كثرة من المسلمين حتى نزلوا .
وساروا جميعاً حتى انتهوا إلى البطاح ، من أرض بني تميم ، فلم يجدوا بها جمعاً . ففرق خالد السرايا في نواحيها ، فأتت سرية منهم بني حنظلة -وسيدهم مالك بن نويرة- وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقاً على قومه ، فجمع صدقاتهم فلما بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، جفل إبل الصدقة -أي ردها إلى أهلها فلذلك سمي الجفول- وجمع قومه ، فقال : إن هذا الرجل قد هلك ، فإن قام قائم بعده : رضي منكم أن تدخلوا في أمره ، ولم يطلب ما مضى ، ولم تكونوا أعطيتم الناس أموالكم ، فتسارع إليه جمهورهم . فقام فيهم قعنب -سيد بني يربوع- فقال . يا بني تميم ! لاترجعوا في صدقاتكم ، فيرجع الله في نعمه عليكم ، ولا تتجردوا للبلاء ، وقد ألبسكم الله العافية ولا تستشعروا خوف الكفر ، وأنتم في أمن الإسلام ، إنكم أعطيتم قليلاً من كثير ، والله مذهب الكثير بالقليل ، ومسلط على أموالكم غداً من يأخذها على غير الرضى ، وإن منعتموها قتلتم ، فأطيعوا الله واعصوا مالكاً. فقام مالك ، فقال : يا بني تميم ! إنما رددت عليكم أموالكم إكراماً لكم ، وإنه لا يزال يقوم منكم قائم يخطئني ، والله ما أنا بأحرصكم على المال ، ولا بأجزعكم من الموت ، ولا بأخفاكم شخصاً إن أقمت ، ولا بأخفاكم راحلة إن هربت . فترضوه عند ذلك وأسندوا أمرهم إليه ، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم . وقال مالك في ذلك :
وقال رجال: سدد اليوم مالك وقال رجال: مالك لم يسدد
فقلت: دعوني لاأبا لأبيكمو فلم أخط رأياً في المعاد ولاالبد
فدونكوموها إنها صدقاتكم مصررة أخلافها لم تجرد
سأجعل نفسي دون ما تحذرونه فأرهنكم يوماً بما قلت يدي
فإن قام بالأمر المجرد قائم أطعنا وقلنا: الدين دين محمد
ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا عليه ، وعاهد الله خالد لئن أخذه ليجعلن هامته أثفية للقدر . فلما وصلتهن السرية -مع طلوع الشمس- فزعوا إلى السلاح ، وقالوا : من أنتم ؟ قالوا : نحن عباد الله المسلمون . قالوا ونحن عباد الله المسلمون . قالوا : فضعوا السلاح ، ففعلوا ، فأخذوهم . وجاؤوا بهم إلى خالد . فقال له أبو قتادة -وهو مع السرية- : أقاتل أنت هؤلاء ؟ قال : نعم ، قال : إنهم اتقونا بالإسلام ، أذنا فأذنوا ، وصلينا فصلوا . وكان عهد أبي بكر : أيما دار غشيتموها ، فسمعتم الأذان فيها بالصلاة ، فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم : ماذا نقموا ؟ وماذا يبغون ؟ وإن لم تسمعوا الأذان : فشنوا عليها الغارة ، فاقتلوا وحرقوا . فأمر بهم خالد فقتلوا ، وأمر برأس مالك ، فجعل أثفية للقدر ، ورثاه أخوه متمم بقصائد كثيرة .
وروي أن عمر قال له : لوددت أني رثيت أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك مالكاً . فقال متمم : لو علمت أن أخي صار حيث صار أخوك ما رثيته . فقال عمر : ما عزاني أحد عن أخي بمثل تعزيته .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:49 AM

ذكر ردة أهل اليمامة مفتونين بمسيلمة الكذاب :
عن رافع بن خديج قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب ، فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوباً ، ولا أحرى أن يكون الإسلام يقر في قلوبهم -من بني حنيفة ، وكان مسيلمة مع الوفد. فلما انصرفوا إلى اليمامة ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة ، وكتب إليه : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد، فإني أشركت في الأمر معك ، وإنا لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريش قوم يعتدون .
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين.
وجد بعدو الله ضلاله ، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك ، إلا أفذاذاً من ذوي عقولهم .
وكان من أعظم ما فتن به قومه : شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الأمر . وكان الرجال من الوفد الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم . فقرأ القرآن ، وتعلم السنن . قال ابن عمر : وكان من أفضل الوفد عندنا ، فكان أعظم فتنة على أهل اليمامة من غيره ، لما كان يعرف به .
قال رافع بن خديج : كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما يرى -شئ عجب ، وكان ابن عمر اليشكري من أشرافهم ، وكان صديقاً للرجال . وكان مسلماً يكتم إسلامه . فقال شعراً فشا في اليمامة حتى كان الوليدة والصبي ينشدونه :
يا سعاد الفؤاد بنت أثال طال ليلي بفتنة الرجال
إنها يا سعاد من حدث الدهر عليكم كفتنة الدجال
فتن القوم بالشهادة والله عزيز ذو قوة ومحال
لايساوي الذي يقول من الأ مـر قبالاً وما احتذى من قبال
إن ديني ديـن النبي وفي القـ ـــوم رجال ليسوا لنا برجال
أهلك القوم محكم بن طفيل ورجال ليسوا لنا برجال
بزهم أمرهم مسيلمة اليوم فلن يرجعوه أخرى الليالي
قلت للنفس إذ تعاظمها الصـ ـبر وساءت مقالة الأنذال:
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال
إن تكن ميتتي على فطرة اللـ ــه حنيفاً فإنني لاأبالي
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكم وأشرافهم ، ففاتهم . ولحق بخالد ، فأخبره بحالهم ، ودله على عوراتهم .
وعظمت فتنة بني حنيفة بكذابهم ، إذا كان يدعو لمريضهم ، ويبرك على مولودهم ، ولا ينهاهم عن الاغترار به ما يريهم الله ما يحل به من الخيبة والخسران .
جاءه رجل بمولود ، فمسح رأسه ، فقرع ، وقرع كل مولود له . وجاءه آخر ، فقال : إني ذو مال ، وليس لي مولود يبلغ سنتين حتى يموت ، إلا هذا المولود . وهو ابن عشر سنين ، ولي مولود ولد أمس . فأحب أن تبارك فيه ، وتدعو أن يطيل الله عمره . قال : سأطلب لك ، فرجع الرجل إلى منزله مسروراً ، فوجد الأكبر قد تردى في بئر ، ووجد الأصغر في نزع الموت ، فلم يمس ذلك اليوم حتى ماتا جميعاً . وتقول أمهما : لا والله ، ما لأبي ثمامة عند إلهه منزلة محمد .
وحفرت بنو حنيفة بئراً فاستعذبوها ، فأتوا مسيلمة ، وطلبوا أن يبارك فيها ، فبصق فيها فعادت ملحاً أجاجاً .
وكان الصديق رضي الله عنه قد عهد إلى خالد -إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية- أن يقصد اليمامة ، وأكد عليه ذلك. فلما أظفر الله خالداً بهم ، تسلل بعضهم إلى المدينة ، يسألون أبا بكر : أن يبايعهم على الإسلام . فقال : بيعتي إياكم وأماني لكم : أن تلحقوا بخالد ، فمن كتب إلي خالد : أنه حضر معه اليمامة ، فهو آمن . وليبلغ شاهدكم غائبكم ، ولا تقدموا علي .
قال ابن الجهم : أولئك الذين لحقوا به : هم الذين انكسروا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات ، وكانوا على المسلمين بلاء .
قال شريك الفزاري : كنت ممن شهد بزاخة ، مع عيينة بن حصن ، ثم رزقني الله الإنابة ، فجئت أبا بكر ، فأمرني بالمسير إلى خالد . وكتب معي إليه : أما بعد ، فقد جاءني كتابك ، تذكر ما أظفرك الله بأسد وغطفان . وإنك سائر إلى اليمامة ، فاتق الله وحده لا شريك له ، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين ، كن لهم كالوالد . وإياك يا ابن الوليد ونخوة بني المغيرة، فإني عصيت فيك من لم أعصه في شئ قط . فانظر بني حنيفة . فإنك لم تلق قوماً يشبهونهم ، كلهم عليك . ولهم بلاد واسعة . فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك . واستشر من معك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . واعرف لهم فضلهم ، فإذا لقيت القوم ، فأعد للأمور أقرانها ، فإن أظفرك الله بهم ، فإياك والإبقاء عليهم ، أجهز على جريحهم ، واطلب مدبرهم ، واحمل أسيرهم على السيف، وهول فيهم القتل ، وحرقهم بالنار ، وإياك أن تخالف أمري ، والسلام .
ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم ، بعد الذي صنع بأمثالهم ، حيرهم ذلك . وجزع له محكم بن طفيل سيدهم ، وهم أن يرجع إلى الإسلام . ثم استمر على ضلالته ، وكان صديقاً لزياد بن لبيد الأنصاري . فقال له خالد : لو ألقيت إليه شيئاً تكسره به ؟ فإنه سيدهم ، وطاعتهم بيده . فبعث إليه هذه الأبيات :
يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم لله در أبيكم حية الوادي
يا محكم بن طفيل إنكم نفر كالشاء أسلمها الراعي لآساد
ما في مسيلمة الكذاب من عوض من دار قوم وإخوان وأولاد
فأكفف حنيفة عنه قبل نائحة تعفي فوارس قوم شجوها بادي
لا تأمنوا خالداً بالبرد معتجراً تحت العجاجة مثل الأغطف العادي
ويل اليمامة ويل لا فراق لـه إن جالت الخيل فيها بالقنا الصادي
والله لا تنثني عنكم أعنتها حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
ووردت على محكم ، وقيل له : هذا خالد في المسلمين . فقال : رضي خالد أمراً، ورضينا غيره ، وما ينكر خالد أن يكون في بني حنيفة من أشرك في الأمر ؟ فسيرى -إن قدم علينا- يلق قوماً ليسوا كمن لقي . ثم خطبهم ، فقال : إنكم تلقون قوماً يبذلون أنفسهم دون صاحبهم ، فابذلوا نفوسكم دون صاحبكم .
وكان عمير بن ضابىء في أصحاب خالد ، ولم يكن من أهل حجر ، كان من أهل ملهم ، فقال له خالد : تقدم إلى قومك فاكسرهم. فأتاهم ، فقال : يا أهل اليمامة ! أظلكم خالد في المهاجرين والأنصار. قد تركت القوم والله يتبايعون على فتح اليمامة، قد قضوا وطراً من أسد وغطفان ، وأنتم في أكفهم . وقولهم : لا قوة إلا بالله، إني رأيت أقواماً إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر . وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت . وان غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد ، لستم والقوم سواء ، الإسلام مقبل ، والشرك مدبر ، وصاحبهم نبي ، وصاحبكم كذاب . ومعهم السرور ، ومعكم الغرور . فالآن -والسيف في غمده ، والنبل في جفيره قبيل أن يسل السيف ، ويرمي بالسهم ، فكذبوه واتهموه .
وقال ثمامة بن أثال فيهم ، فقال : اسمعوا مني ، وأطيعوا أمري ، ترشدوا . إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد . إن محمداً لا نبي بعده ، ولا نبي يرسل معه ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ، هذا كلام الله عز وجل . أين هذا من : يا ضفدع يا ضفدعين . نقي ، كم تنقين؟ نصفك في الماء ونصفك في الطين . لا الشراب تمنعين ولا الماء تكدرين ، ولا الطين تفارقين . لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشاً قوم يعتدون . والله إنكم لترون هذا ما يخرج من إل . وقد استحق محمد أمراً أذكره به : خرجت معتمراً ، فأخذتني رسله في غير عهد ولا ذمة ، فعفا عن دمي ، فأسلمت وأذن لي في الخروج إلى بيت الله . فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقام هذا الأمر رجل من بعده ، هو أفقههم في أنفسهم ، لا تأخذه في الله لومة لائم. ثم بعث إليكم رجلاً، لا يسمى باسمه، ولا باسم أبيه ، يقال له : سيف الله، معه سيوف لله كثيرة ، فانظروا في أمركم، فآذاه القوم جميعاً ، أو من آذاه منهم . وقال ثمامة في ذلك :
مسيلمة ارجع ولاتمحك فإنك في الأمر لم تشرك
كذبت على الله في وحيه وكان هواك هوى الأنوك
ومناك قومك أن يمنعوك وإن يأتهم خالد تترك
فما لك من مصعد في السماء مالك في الأرض من مسلك

اسير الصحراء 04-27-2006 12:50 AM

ذكر تقديم خالد الطلائع من البطاح :

لما سار خالد من البطاح وجاء أرض بني تميم : قدم مائتي فارس ، عليهم معن بن عدي ، وقدم عينين له أمامه .
وذكر الواقدي : أن خالداً لما قدم العرض قدم مائتي فارس ، وقال : من أصبتم من الناس فخذوه . فانطلقوا ، وأخذوا مجاعة بن مرارة ، في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه ، خرجوا في طلب رجل أصاب فيهم دماً ، وهم لا يشعرون بإقبال خالد ، فسألوهم : من أنتم ؟ فقالوا : من بني حنيفة ، فقالوا : ما تقولون في صاحبكم ؟ فشهدوا أنه رسول الله ، فقالوا لمجاعة : ما تقول أنت ؟ فقال: ما كنت أقرب مسيلمة ، وقد قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وما غيرت ولا بدلت . فضرب خالد أعناقهم ، حتى إذا بقي سارية بن عامر ، قال : يا خالد ! إن كنت تريد بأهل اليمامة خيراً أو شراً ، فاستبق مجاعة . وكان مجاعة شريفاً ، فلم يقتله . وترك أيضاً سارية ، وأمر بهما فأوثقا في جوامع من حديد .
وكان يدعو مجاعة -وهو كذلك- فيتحدث معه ، وهو يظن أن خالداً يقتله . فقال : يا ابن المغيرة ! إن لي إسلاماً ، والله ما كفرت ، وأعاد كلامه الأول . فقال خالد : إن بين القتل والترك منزلة ، وهي الحبس ، حتى يقضي الله في حربنا ما هو قاض . ودفعه إلى أم متمم زوجته ، وأمرها أن تحسن إساره . فظن مجاعة أن خالداً يريد حبسه لأجل أن يخبره عن عدوه ويشير عليه . فقال : يا خالد ، لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبايعته على الإسلام . وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس . فإن يكن كذاب خرج فينا ، فإن الله يقول : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ، فقال : يا مجاعة ! تركت اليوم ما كنت عليه بالأمس ، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ، وسكوتك عنه - وأنت أعز أهل اليمامة ، وقد بلغك مسيري -إقراراً له ، ورضى بما جاء به ، فهلا أبديت عذراً ، فتكلمت فيمن تكلم ؟ فقد تكلم ثمامة . فرد وأنكر ، وتكلم اليشكري ، فإن قلت : أخاف قومي ، فهلا عمدت إلي ، أو بعثت إلي رسولاً ؟ فقال : إن رأيت يا ابن المغيرة ! أن تعفو عن هذا كله ؟ فقال : قد عفوت عن دمك ، ولكن في نفسي من تركك حرج .
فقال له ذات يوم : أخبرني عن صاحبك ، ما الذي يقرئكم ؟ هل تحفظ منه شيئاً ؟ قال : نعم ، فذكر له شيئاً من رجزه. فضرب خالد بإحدى يديه على الأخرى ، وقال : يا معشر المسلمين ! اسمعوا إلى عدو الله ، كيف يعارض القرآن ؟ فقال : ويحك ، يا مجاعة ! أراك سيداً عاقلاً ، تسمع إلى كتاب الله ، ثم انظر كيف عارضه عدو الله ؟ فقرأ عليه خالد : بسم الله الرحمن الرحيم : " سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى " . ثم قال خالد : أفما كان في هذا لكم ناه ، ولا زاجر؟ ثم قال : هات من كذب الخبيث . فذكر له بعض رجزه . فقال خالد : وقد كان عندكم حقاً وكنتم تصدقونه ؟ فقال : لو لم يكن عندنا حقاً لما لقيك غداً أكثر من عشرة آلاف سيف ، يضاربونك حتى يموت الأعجل . فقال خالد : إذاً يكفيناهم الله ، ويقر دينه ، فإياه يعبدون ودينه يؤيدون .
قال عبيد الله بن عبد الله : لما أشرف خالد ، وأجمع أن ينزل عقرباء ، ودفع الطلائع أمامه ، فرجعوا إليه فأخبروه : أن مسيلمة ومن معه قد نزلوا عقرباء ، فشاور أصحابه : أن يمضي إلى اليمامة ، أو ينتهي إلى عقرباء . فأجمعوا أن ينتهي إلى عقرباء ، فزحف خالد بالمسلمين إليها ، وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة ، فإذا الرجل على مقدمة مسيلمة ، فلعنوه وشتموه . فلما فرغ خالد من ضرب عسكره -وبنو حنيفة تسوي صفوفها- نهض خالد إلى صفوفه فصفها . وقدم رايته مع زيد بن الخطاب ، ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس ، فتقدم بها . وجعل على ميمنته : أبا حذيفة بن عتبة ، وعلى ميسرته : شجاع بن وهب ، واستعمل على الخيل البراء بن مالك ، ثم عزله ، واستعمل أسامة بن زيد . فأقبل بنو حنيفة ، وقد سلوا السيوف . فقال خالد : يا معشر المسلمين ! أبشروا ، فقد كفاكم الله أمر عدوكم ، ما سلوا السيوف من بعد إلا ليرهبوا . فقال مجاعة : كلا ، يا أبا سليمان ! ولكنها الهندوانية ، خشوا تحطمها ، وهي غداً باردة ، فأبرزوها للشمس لتسخن متونها . فلما دنوا من المسلمين نادوا : إنا نعتذر إليكم من سلنا سيوفنا ، والله ما سللناها ترهيباً ، ولكن غداة باردة ، فخشينا تحطمها ، فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم ، فسترون .
فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وصبر الفريقان صبراً طويلاً ، حتى كثر القتل والجراح في الفريقين . واستحر القتل في المسلمين وحملة القرآن ، حتى فنوا إلا قليلاً . وهزم كل من الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين ، والمشركون عسكر المسلمين مراراً . وجعل زيد بن الخطاب -ومعه الراية- يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ، وأعتذر إليك من فرار أصحابي ، وجعل يشتد بالراية في نحور العدو ، ثم ضارب بسيفه حتى قتل ، رحمه الله ورضي عنه . فأخذ الراية سالم مولى أبي حذيفة ، فقال المسلمون : إنا نخاف أن نؤتى من قبلك . فقال : بئس حامل القرآن أنا ، إذا أتيتم من قبلي .
ونادت الأنصار ثابت بن قيس -ومعه رايتهم- : الزمها ، فإنها ملاك القوم ، فتقدم سالم فحفر لرجليه [حتى بلغ أنصاف ساقيه ، وحفر ثابت لرجليه] مثل ذلك ، ثم لزما رايتيهما . ولقد كان الناس يتفرقون في كل وجه ، وإن سالماً وثابتاً لقائمان ، حتى قتل سالم ، وقتل أبو حذيفة مولاه .
قال وحشي بن حرب : اقتتلنا قتالاً شديداً ، حتى رأيت شهب النار تخرج من خلال السيوف ، حتى سمعت لها صوتاً كالأجراس .
وقال ضمرة بن سعيد المازني -وذكر ردة بني حنيفة- : لم يلق المسلمون عدواً أشد نكاية منهم ، لقوهم بالموت الناقع ، والسيوف قد أصلتوها قبل النبل ، وقبل الرماح . فكان المعول يومئذ على أهل السوابق .
وقال ثابت بن قيس يومئذ : يا معشر الأنصار ! الله ، الله في دينكم ، علمنا هؤلاء أمراً ما كنا نحسنه . ثم أقبل على المسلمين ، وقال : أف لكم ولما تصنعون . ثم قال : خلوا بيننا وبينهم ، أخلصونا . فأخلصت الأنصار ، فلم تكن لهم ناهية ، حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل فقتلوه . ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها ، فقاتلوا أشد القتال ، حتى اختلطوا فيها ، ثم صاح ثابت صيحة : يا أصحاب سورة البقرة . وأوفى عباد بن بشر على نشز فصاح بأعلى صوته : أنا عباد بن بشر ، يا للأنصار ! أنا عباد ، إلي إلي. فأجابوه : لبيك لبيك ، حتى توافوا عنده . فقال : فداكم أبي وأمي ، حطموا جفون السيوف . ثم حطم جفن سيفه فألقاه . وحطمت الأنصار جفون سيوفها ، ثم قال : حملة صادقة ، اتبعوني . فخرج أمامهم ، حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين ، حتى انتهوا إلى الحديقة ، فأغلق عليهم . ثم إن الله فتح الحديقة ، فاقتحم عليهم المسلمون .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : دخلنا الحديقة ، حين جاء وقت الظهر ، واستحر القتال ، فأمر خالد المؤذن ، فأذن على جدار الحديقة بالظهر ، والقوم مقبلون على القتل ، حتى انقطعت الحرب بعد العصر . فصلى بنا خالد الظهر والعصر . ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى ، فطفت معهم . فمررت بعامر بن ثابت ، وإلى جنبه رجل من بني حنيفة به جراح ، فسقيت عامراً. فقال الحنفي : اسقني فدى لك أبي وأمي . فقلت : لا ، ولا كرامة ، ولكني أجهز عليك . قال : أحسنت ، أسألك مسألة لا شئ عليك فيها . قلت : ما هي ؟ قال : أبو ثمامة ، ما فعل ؟ قلت : والله قتل ، قال : نبي ضيعه قومه .
ولما قتل منهم من قتل ، وكانت لهم أيضاً في المسلمين مقتلة عظيمة ، قد أبيح أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لا تغمدوا السيوف ، وفينا وفيهم عين تطرف ، وكان فيمن بقي من المسلمين جراحات كثيرة . فلما أمسى مجاعة ، أرسل إلى قومه ليلاً أن ألبسوا السلاح النساء والذرية ، ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلي الشمس على حصونكم ، حتى يأتيكم أمري . وبات المسلمون يدفنون قتلاهم ، فلما فرغوا ، جعلوا يتكمدون بالنار من الجراح. فلما أصبحوا أمر خالد، فسيق مجاعة في الحديد، يعرفهم القتلى فمر برجل وسيم ، فقال : يا مجاعة، أهو هذا ؟ قال : هذا أكرم منه ، هذا محكم بن الطفيل ، إن الذي تبتغون لرجل أصيفر أخينس . فوجدوه ، فوقف عليه خالد ، فحمد الله كثيراً ، وأمر به فألقي في البئر التي كان يشرب منها .
وكان خالد يرى أنه لم يبق منهم أحد إلا من لا عتاد عنده ، فقال : يا مجاعة ! هذا صاحبكم الذي فعل بكم الأفاعيل ، ما رأيت عقولاً أضعف من عقول أصحابك ، مثل هذا فعل بكم ما فعل ؟ فقال مجاعة : قد كان ذلك ، ولا تظن أن الحرب انقطعت، وإن قتلته. إن جماعة الناس ، وأهل البيوتات لفي الحصون ، فانظر . فرفع خالد رأسه ، فإذا السلاح والخلق الكثير على الحصون ، فرأى أمراً غمه . ثم استند ساعة ، ثم أدركته الرجولة ، فقال لأصحابه : يا خيل الله ! اركبي ، يا صاحب الراية قدمها. فقال مجاعة : إني لك ناصح ، وإن السيف قد أفناك ، فتعال أصالحك عن قومي . وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة ، ومن كان عنده الغناء . فقد رق وأحب الموادعة ، مع عجف الكراع . فاصطلحوا على الصفراء والبيضاء ، والحلقة والكراع ونصف السبي . ثم قال مجاعة : إني آت القوم فعارض عليهم ما صنعت . قال : فانطلق ، فذهب . ثم رجع ، فأخبره : أنهم أجازوه . فلما بان لخالد أنما هم النساء والصبيان ، قال : ويلك يا مجاعة ! خدعتني . قال : قومي ، فما أصنع ؟ وما وجدت من ذلك بداً .
وقال أسيد بن حضير وغيره لخالد : اتق الله ، ولا تقبل الصلح . فقال : إنه قد أفناكم السيف . قالوا : وأفنى غيرنا أيضاً . قال : ومن بقي منكم جريح . قالوا : ومن بقي من القوم جرحى ، لا ندخل في الصلح أبداً . أغد بنا عليهم ، حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد عن آخرنا. احملنا على كتاب أبي بكر إن أظفرك الله بهم ، فلا تبق منهم أحداً، فبينا هم على ذلك ، إذ جاء كتاب أبي بكر يقطر الدم ، وفيه : إن أظفرك الله بهم ، فلا تستبق رجلاً مرت عليه الموسى. فتكلمت الأنصار في ذلك ، وقالوا : أمر أبي بكر فوق أمرك . فقال : إني والله ما ابتغيت في ذلك إلا الذي هو خير . رأيت أهل السابقة وأهل القرآن قد قتلوا ، ولم يبق معي إلا من لا بقاء له على السيف لو لج عليهم . فقبلت الصلح ، مع أنهم قد أظهروا الإسلام ، واتقوا بالراح .
وتم الصلح ، وكتب إلى أبي بكر يعتذر إليه . فتكلم عمر في شأن خالد بكلام غليظ ، فقال أبو بكر : دع عنك هذا . فقال : سمعاً وطاعة . وقال أبو بكر : ليته حملهم على السيف ، فلن يزالوا من كذابهم في بلية إلى يوم القيامة ، إلا أن يعصمهم الله . وكانت وقعة اليمامة في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة .
وذكر عمر يوماً وقعة اليمامة ، ومن قتل فيها من أهل السابقة ، فقال :ألحت السيوف على أهل السوابق ، ولم يكن المعول يومئذ إلا عليهم . خافوا على الإسلام أن يكسر بابه ، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة ، فمنع الله الإسلام بهم حتى قتل عدوه ، وأظهر كلمته وقدموا -رحمهم الله- على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله ، فاستحر بهم القتل ، فرحم الله تلك الوجوه .
وقال يعقوب بن سعيد بن عبيد الزهري : قتل من بني حنيفة أكثر من سبعة آلاف ، وكان داؤهم خبيثاً ، والطارىء منهم على الإسلام عظيماً ، فاستأصل شأفتهم ، والحمد لله رب العالمين.

اسير الصحراء 04-27-2006 12:50 AM

ذكر ردة بني سليم :

ذكر الواقدي -من حديث سفيان بن أبي العرجاء السليمي . وكان عالماً بردة قومه- قال : أهدى ملك من ملوك غسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لطيمة فيها مسك وعنبر ، وخيل . فخرجت بها الرسل ، حتى إذا كانت بأرض بني سليم بلغتهم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فتشجع بعض بني سليم على أخذها والردة ، وأبى بعضهم من ذلك ، وقال: إن كان محمد قد مات ، فإن الله حي لا يموت ، فانتهب الذين ارتدوا منهم اللطيمة .
فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه : كتب إلى معن بن حاجر ، فاستعمله على من أسلم من بني سليم ، وكان قد قام في ذلك قياماً حسناً ، ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الناس ما قال الله لنبيه : " إنك ميت وإنهم ميتون " ، وقال : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ، مع آي من كتاب الله . فاجتمع إليه بشر من بني سليم . وانحاز أهل الردة منهم ، فجعلوا يغيرون على الناس .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:51 AM

قتل الفجاءة وتحريقه :
فلما بدا لأبي بكر أن يوجه خالداً ، كتب إلى معن أن يلحق بخالد ، ويستعمل على عمله أخاه طريفة بن حاجر، ففعل. وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين ، إذ قدم الفجاءة -واسمه إياس بن عبد الله بن عبد ياليل- على أبي بكر . فقال: إني مسلم، وقد أردت جهاد من ارتد ، فاحملني، فلو كان عندي قوة لم أقدم عليك. فسر أبو بكر بمقدمه ، وحمله على ثلاثين بعيراً ، وأعطاه سلاحاً . فخرج يستعرض المسلم والكافر ، يقتلهم ويأخذ أموالهم . ويصيب من امتنع منهم ، ومعه رجل من بني الشريد . يقال له : نجبة بن أبي الميثاء ، مع قوم من أهل الردة . فلما بلغ أبا بكر خبره ، كتب إلى طريفة بن حاجر :
بسم الله الرحمن الرحيم . من أبي بكر إلى طريفة ، سلام عليك . أما بعد، فإن عدو الله الفجاءة أتاني. فزعم أنه مسلم وسألني: أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام ، فحملته وسلحته ، وقد انتهى إلي من يقين الخبر أن عدو الله قد استعرض الناس : المسلم والمرتد ، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم . فسر إليه بمن معك من المسلمين ، حتى تقتله ، أو تأخذه ، فتأتيني به .
فقرأ طريفة الكتاب على قومه ، فحشدوا إلى الفجاءة . فقدم عليه ابن المثنى ، فقتل نجبة، وهرب منه إلى الفجاءة. ثم زحف طريفة إلى الفجاءة ، فتصادما . فلما رأى الفجاءة الخلل في أصحابه ، قال : يا طريفة ! والله ما كفرت ، وإني لمسلم. وما أنت بأولى بأبي بكر مني ، أنت أميره وأنا أميره . قال طريفة : إن كنت صادقاً فألق السلاح ، ثم انطلق إلى أبي بكر . فأخبره خبرك . فوضع السلاح ، فأوثقه طريفة في جامعة، فقال: لا تفعل . فقال طريفة : هذا كتاب أبي بكر إلي . فقال الفجاءة : سمعاً وطاعة . فبعث به في جامعتة مع عشرة من بني سليم ، فأرسل به أبو بكر إلى بني جشم ، فحرقته بالنار .
وقدم على أبي بكر -رضي الله عنه- قبيصة -أحد بني الظربان- فذكر أنه مسلم ولم يرتد فأمره أن يقاتل بمن معه من ارتد ، فرجع قبيصة . فاجتمع إليه ناس كثير، فخرج يتبع بهم أهل الردة ، يقتلهم حيث وجدهم، حتى مر ببيت حميضة بن الحكم الشريدي، فوجده غائباً ، يجمع أهل الردة ، ووجد جاراً له مرتداً ، فقتله واستاق ماله . فلما أتى حميضة أخبره أهله بخبر جاره ، فخرج في طلبهم ، فأدركهم ، فقال لقبيصة : قتلت جاري ؟ فقال : إن جارك ارتد عن الإسلام . فقال : أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلي لأمنعه ؟ فقال قبيصة : قد كان ذلك . فطعنه حميضة بالرمح ، فوقع عن بعيره ، ثم قتله . وكان قبيصة قد فرق أصحابه قبل أن يلحقه حميضة .
وكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد : إن أظفرك الله ببني حنيفة ، فأقل اللبث فيهم ، حتى تنحدر إلى بني سليم ، فتطأهم وطأة يعرفون بها ما منعوا ، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه مني عليهم ، فإن أظفرك الله بهم ، فلا آلوك فيهم : أن تحرقهم بالنار ، وهول فيهم القتل حتى يكون نكالاً لهم.
وسمعت بنو سليم بإقبال خالد ، فاجتمع منهم بشر كثير ، واستجلبوا من بقي من العرب مرتداً . وكان الذي جمعهم : أبو شجرة بن عبد العزى . فانتهى خالد إلى جمعهم مع الصبح ، فصاح خالد في أصحابه ، وأمرهم بلبس السلاح . ثم صفهم ، وصفت بنو سليم ، وقد كل المسلمون وعجف كراعم وخفهم ، وجعل خالد يلي القتال بنفسه ، حتى أثخن فيهم القتل . ثم حمل عليهم حملة واحدة ، فانهزموا . وأسر منهم بشر كثير . ثم حظر لهم الحظائر وحرقهم فيها .
وجرح أبو شجرة يومئذ في المسلمين جراحات كثيرة ، وقال في ذلك أبياتاً ؟ منها :
فرويت رمحي من كتيبة خالد وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم أسلم ، وجعل يعتذر ، ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم . فلما كان زمن عمر رضي الله عنه قدم المدينة ، وأناخ راحلته بصعيد بني قريظة ثم أتى عمر - وهو يقسم بين الفقراء- فقال : يا أمير المؤمنين ! أعطني ، فإني ذو حاجة . فقال : من أنت ؟ قال : أنا أبو شجرة . قال : يا عدو الله ! ألست الذي تقول فرويت رمحي -البيت ؟ عمر سوء ، والله ما عشت لك يا خبيث . ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه ، حتى سبقه عدواً ، وعمر في طلبه ، حتى أتى راحلته فارتحلها . ثم اشتد بها في حرة شوزان ، فما استطاع أن يقرب عمر حتى توفي .
وكان إسلامه لا بأس به . وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ، ويقول : ما رأيت أحداً أهيب من عمر رضي الله عنه .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:51 AM

ذكر ردة أهل البحرين :

قال عيسى بن طلحة : لما ارتدت العرب -بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال كسرى : من يكفيني أمر العرب ؟ فقد مات صاحبهم ، وهم الآن يختلفون بينهم ، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم ، فيجتمعون على أفضلهم . قالوا : ندلك على أكمل الرجال ، مخارق بن النعمان ، ليس في الناس مثله ، وهو من أهل بيت دانت لهم العرب ، وهؤلاء جيرانك ، بكر بن وائل . فأرسل إليهم ، وأخذ منهم ستمائة ، الأشرف فالأشرف . وارتد أهل هجر عن الإسلام . فقام الجارود بن المعلى في قومه ، فقال : ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية ؟ وإني لم آتكم قط إلا بخير، وإن الله تعالى بعث نبيه ، ونعى له نفسه ، فقال :" إنك ميت وإنهم ميتون "، وقال : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية .
وفي لفظ أنه قال : ما شهادتكم على موسى ؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله ، قال : فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا : نشهد أنه رسول الله ، قال : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله . عاش كما عاشوا ، ومات كما ماتوا ، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك منكم . فلم يرتد من عبد القيس أحد .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبان بن سعيد على البحرين ، وعزل العلاء بن الحضرمي ، فقال : أبلغوني مأمني ، فأشهد أمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحيا بحياتهم ، وأموت بموتهم . فقالوا : لا تفعل ، فأنت أعز الناس علينا ، وهذا علينا وعليك فيه مقالة ، يقال : فر من القتال . فأبى ، وانطلق في ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة . فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا ؟ فقال : ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمي . فبعثه إلى البحرين في ستة عشر راكباً . وقال : امض ، فإن أمامك عبد القيس، فسار . ومر بثمامة بن أثال فأمده برجال من قومه بني سحيم ، ثم لحق به .
فنزل العلاء بحصن يقال له : جواثى ، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل : حصن المشقر - حصن عظيم لعبد القيس- فسار إليهم العلاء، فيمن اجتمع إليه . فقاتلهم قتالاً شديداً، حتى كثر القتلى في الفريقين ، والجارود بن المعلى بالخط يبعث البعوث إلى العلاء . وبعث مخارق : الحطم بن شريح -أحد بني قيس بن ثعلبة- إلى مرزبان الخط يستمده ، فأمده بالأساورة. فنزل الحطم ردم القداح - وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجراً - وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده . وسار الحطم وأبجر العجلي حتى حصلوا العلاء بجواثى . فقال عبد الله بن حذف ، وكان من صالحي المسلمين :
ألا أبلغ أبا بكر رسولا وسكان المدينة أجمعينا
فهل لكمو إلى نفر يسير قعود في جواثى محصرينا
كأن دماءهم في كل فج شعاع الشمس يغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا النصر للمتوكلينا
فمكثوا على ذلك محصورين .
وسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطاً في العسكر ، فقالوا : لو علمنا أمرهم ؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا أعلم لكم علمهم . فدلوه بحبل ، فأقبل حتى دخل على أبجر العجلي -وأمه منهم- قال : ما جاء بك ؟ لا أنعم الله بك عيناً . قال : جاء بي الضر والجوع ، وأردت اللحاق بأهلي ، فزودني . فقال : أفعل ، على أني أظنك والله غير ذلك ، بئس ابن الأخت أنت سائر الليلة . فزوده وأعطاه نعلين ، وأخرجه من العسكر ، وخرج معه حتى برز . فمضى كأنه لا يريد الحصن حتى أبعد ، ثم عطف ، فأخذ بالحبل فصعد . فقالوا : ما وراءك ؟ قال : تركتهم سكارى ، قد نزل بهم تجار معهم خمر ، فاشتروا منهم ، فإن كان لكم بهم حاجة فالليلة . فنزلوا إليهم ، فبيتوهم فقتلوهم ، فلم يفلت منهم أحد . ووثب الحطم فوضع رجله في الركابات ، وجعل يقول : من يحملني ، فسمعه عبد الله بن حذف . فأقبل يقول : أبا ضبيعة ؟ قال : نعم ، قال : أنا أحملك . فلما دنا منه قتله ، وقطعت رجل أبجر العجلي ، فمات منها . وانهزم فلهم فاعتصموا بمفروق الشيباني .
ثم سار العلاء إلى مدينة دارين فقاتلهم قتالاً شديداً ، وضيق عليهم . فلما رأى ذلك مخارق ومن معه ، قالوا: إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا . فشاور العلاء أصحابه ، فأشاروا بتخليتهم ، فخرجوا فلحقوا ببلادهم . وطلب أهل دارين الصلح ، فصالحهم العلاء على ثلث ما في أيديهم من أموالهم ، وما كان خارجاً منها فهو له .
وطفقت بكر بن وائل تنادي : يا عبد القيس ، أتاكم مفروق في جماعة بكر بن وائل . فقال عبد الله بن حذف :
لا توعدونا بمفروق وأسرته إن يأتنا يلق منا سنة الحطم
فالنخل ظاهرها خيل وباطنها خيل تكدس بالفرسان في النعم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا لأمة داخلون النار في أمم
ثم سار العلاء إلى الخط ، حتى نزل إلى الساحل . فجاءه نصراني ، فقال : ما لي إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين ؟ قال : وما تسألني ؟ قال : أهل بيت بدارين . قال : هم لك . فخاض به ، فظفر بهم عنوة ، وسبى أهلها . وقيل : حبس لهم البحر ، حتى خاضوه ، وكانت تجري فيه السفن قبل ، ثم جرت بعد .
ويروى : أن العلاء وأصحابه جأروا إلى الله ، وتضرعوا إليه في حبس البحر ، فأجاب الله دعاءهم . وكان دعاؤهم : يا أرحم الراحمين ! يا كريم ! يا حليم ! يا أحد ! يا صمد ! يا حي يا محيي الموتى ، يا حي يا قيوم ، لا إله إلا أنت يا ربنا، فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله جميعاً يمشون على مثل رملة . فقال عفيف بن المنذر في ذلك :
ألم تر أن الله ذلل بحره وأنزل بالكفار إحدى الجلائل؟
دعونا الذي شق البحار فجاءنا بأعظم من فلق البحار الأوائل
ولما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين ، صالحوا على ما صالح عليه أهل هجر .
ولما ظهر العلاء على أهل الردة والمجوس : بعث رجالاً من عبد القيس إلى أبي بكر رضي الله عنه ، فنزلوا على طلحة ، والزبير رضي الله عنهما ، وأخبروهما بقيامهم في أهل الردة . ثم دخلوا على أبي بكر ، وحضر طلحة والزبير ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ! إنا قوم أهل إسلام . وليس شئ أحب إلينا من رضاك ، ونحن نحب أن تعطينا أرضاً من البحر وطواحين . وكلمه في ذلك طلحة والزبير .
فأجاب ، وقالوا : اكتب لنا كتاباً ، فكتب . فانطلقوا بالكتاب إلى عمر رضي الله عنه . فلما قرأه ، تفل في الكتاب ومحاه . ودخل طلحة والزبير ، فقالا : والله ما ندري ، أنت الخليفة أم عمر ؟ فقال أبو بكر : وما ذاك ؟ فأخبروه ، فقال أبو بكر : لئن كان عمر كره شيئاً من ذلك ، فإني لا أفعله . فبينما هم على ذلك إذ جاء عمر ، فقال له أبو بكر : ما كرهت من هذا ؟ قال : كرهت أن تعطي الخاصة دون العامة ، وأنت تقسم على الناس ، فتأبى أن تفضل أهل السابقة، وتعطي هؤلاء قيمة عشرين ألفاً دون الناس. فقال أبو بكر : وفقك الله ، وجزاك خيراً . هذا هو الحق .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:51 AM

ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان :
وذلك : أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين . فبعث إليهم مصدقاً يقال له . حذيفة بن محصن البارقي ، ثم الأزدي ، من أهل دبا . وأمره : أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم ، ويردها على فقرائهم، ففعل ذلك حذيفة .
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة ، وارتدوا ، فدعاهم حذيفة إلى التوبة ، فأبوا ، وجعلوا يرتجلون :
لقد أتانا خبر ردي أمست قريش كلها نبي
ظلم لعمر الله عبقري
فكتب حذيفة إلى أبي بكر بأمرهم ، فاغتاظ غيظاً شديداً ، وقال : من لهؤلاء ؟ ويل لهم ؟ .
ثم بعث إليهم عكرمة بن أبي جهل -وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استعمله على سفلي بني عامر بن صعصعة مصدقاً- فلما بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى تبالة في أناس من العرب ، ثبتوا على الإسلام . وكان مقيماً بتبالة في أرض كعب بن ربيعة ، فجاءه كتاب أبي بكر : سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا.
فسار عكرمة في نحو ألفين من المسلمين ، وكان رأس أهل الردة : لقيط بن مالك الأزدي ، فلما بلغه مسير عكرمة ، بعث ألف رجل من الأزد يلقونه . وبلغ عكرمة : أنهم جموع كثيرة ، فبعث طليعة ، وكان للعدو أيضاً طليعة ، فالتقت الطليعتان ، فتناوشوا ساعة ، ثم انكشف أصحاب لقيط . وقتل منهم نحو مائة رجل ، وبعث أصحاب عكرمة فارساً يخبره . فأسرع عكرمة حتى لحق طليعته ، ثم زحفوا جميعاً ، وسار على تعبئة ، حتى أدرك القوم . فاقتتلوا ساعة ، ثم هزمهم عكرمة ، وأكثر فيهم القتل، ورجع فلهم إلى لقيط بن مالك ، فأخبروه : أن عكرمة مقبل .
فقوي جانب حذيفة [ومن معه من المسلمين فناهضهم ، وجاء عكرمة ، فقاتل معهم ، فانهزم العدو حتى دخلوا مدينة دبا ، فحصرهم المسلمون شهراً ، وشق عليهم الحصار إذ لم يكونوا قد أخذوا له أهبة ، فأرسلوا إلى حذيفة] يسألونه الصلح . فقال : لا ، إلا بين حرب مجلية ، أو سلم مخزية . قالوا : أما الحرب المجلية . فقد عرفناها ، فما السلم المخزية ؟ قال : تشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، وأن كل ما أخذناه منكم فهو لنا ، وما أخذتموه فهو رد لنا ، وأنا على حق وأنتم على باطل وكفر ، ونحكم فيكم بما رأينا . فأقروا بذلك . فقال : اخرجوا عزلاً ، لا سلاح معكم . ففعلوا ، فدخل المسلمون حصنهم ، فقال حذيفة : إني قد حكمت فيكم : أن أقتل أشرافكم ، وأسبي ذراريكم . فقتل من أشرافهم مائة رجل ، وسبي ذراريهم . وقدم حذيفة بسبيهم المدينة، وهم ثلاثمائة من المقاتلة ، وأربعمائة من الذرية والنساء . وأقام عكرمة بدبا عاملاً عليها لأبي بكر .
فلما قدم حذيفة بسبيهم : أنزلهم أبو بكر رضي الله عنه دار رملة بنت الحارث ، وهو يريد أن يقتل من بقي من المقاتلة . والقوم يقولون : والله ما رجعنا عن الإسلام ، ولكن شححنا على أموالنا . فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول ، وكلمه فيهم عمر ، وكان رأيه أن لا يسبوا . فلم يزالوا موقوفين في دار رملة حتى مات أبو بكر . فدعاهم عمر ، فقال : انطلقوا إلى أي بلاد شئتم ، فأنتم قوم أحرار . فخرجوا حتى نزلوا البصرة . وكان فيهم أبو صفرة -والد المهلب- وهو غلام يومئذ . ولما قدم غزو أهل دبا أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:52 AM

السنة الثانية عشرة : مسير خالد إلى العراق :
ولما دخلت السنة الثانية من خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، وهي سنة اثنتي عشرة من الهجرة ، كتب إلى خالد : إذا فرغت من اليمامة ، فسر إلى العراق ، فقد وليتك حرب فارس. فسار إليه في بضعة وثلاثين ألفاً ، فصالح أهل السواد . ثم سار إلى الأبلة . وخرج كسرى في مائة وعشرين ألفاً . فالتقى مع خالد ، فهزم الله المشركين من الفرس . وكتب خالد إلى كسرى : أما بعد ، فأسلموا تسلموا ، وإلا فأدوا الجزية ، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة ، فصالحوه .
وفيها حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس ، ثم رجع إلى المدينة .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:52 AM

حوادث السنة الثالثة عشرة :
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة .
فبعث أبو بكر رضي الله عنه الجنود إلى الشام ، وأمر عليهم يزيد بن أبي سفيان ، وأبا عبيدة عامر بن الجراح ، وشرحبيل بن حسنة ، وعمرو بن العاص . ونزلت الروم بأعلى فلسطين في سبعين ألفاً . فكتبوا إلى أبي بكر يخبرونه ويستمدونه ، فأمر خالداً -وهو بالحيرة- أن يمد أهل الشام بمن معه من أهل القوة ، ويستخلف على ضعفة الناس رجلاً منهم .
فسار خالد بأهل القوة ، ورد الضعفة إلى المدينة . واستخلف على من أسلم بالعراق : المثثى بن حارثة .
وسار حتى وصل إلى الشام ، ففتحوا بصرى . وهي أول مدينة فتحت .
ثم اجتمع المشركون من الروم ، فانحاز المسلمون إلى أجنادين ، فكانت الوقعة المشهورة ، وكان النصر للمسلمين .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:53 AM

موت الصديق رضي الله عنه :
وفي هذه السنة : مات الصديق ، ليلة الثلاثاء ، لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة .
وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر ، واثنتين وعشرين ليلة .
واستخلف على الناس عمر بن الخطاب ، وقال : اللهم إني وليتهم خيرهم ، ولم أرد بذلك إلا إصلاحهم . ولم أرد محاباة عمر ، فأخلفني فيهم ، فهم عبادك ، ونواصيهم بيدك ، أصلح لهم واليهم ، واجعله من خلفائك الراشدين ، يتبع هدى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأصلح له رعيته. ثم دعاه ، فقال : يا عمر ! إن لله حقاً في الليل لا يقبله في النهار ، وحقاً في النهار لا يقبله في الليل . وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى فريضة ، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق ، وثقله عليهم . وحق لميزان لا يوضع فيه غير الحق غداً أن يكون ثقيلاً . فإذا حفظت وصيتي ، لم يكن غائب أحب إليك من الموت ، وهو نازل بك . وإن ضيعتها ، فلا غائب أكره إليك منه ، ولست تعجزه .
وورث منه أبوه أبو قحافة السدس ، ولما ورد كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد باستخلاف عمر بايعوه . ثم ساروا إلى فحل بناحية الأردن ، وقد اجتمع بها الروم . فكانت وقعة فحل المشهورة ، ونصر الله المسلمين ، وانحاز المشركون إلى دمشق .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:53 AM

حوادث السنة الرابعة عشرة :
ثم دخلت السنة الرابعة عشرة :
وفيها : ساروا إلى دمشق وعليهم خالد . فأتى كتاب عمر رضي الله عنه بعزل خالد ، وتأمير أبي عبيدة بن الجراح .
وفيها : أمر عمر بصلاة التراويح جماعة .
وقدم جرير بن عبد الله في ركب من بجيلة ، فأشار عليه عمر بالخروج إلى العراق ، فسار بهم جرير إلى العراق . فلما قرب من المثنى بن حارثة ، كتب إليه : أقبل ، فإنما أنت مدد لي . فقال جرير : أنت أمير ، وأنا أمير . ثم اجتمعا . فكانت وقعة البويب المشهورة .
ثم أن عمر أمر سعداً بن أبي وقاص رضي الله عنه على العراق ، وكتب له وأوصاه ، فقال : يا سعد بن وهيب ! لا يغرنك من الله أن قيل : خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، فإن الله لايمحو السئ بالسئ ، ولكن يمحو السئ بالحسن . وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء . الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعافية ، ويدركون ما عند الله بالطاعة . فانظر الأمر الذي رأيت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه ، فالزمه، فإنه الأمر، وكتب إلى المثنى وجرير : أن يجتمعا إليه . فسار سعد بمن معه ، فنزل بشراف ، واجتمع إليه الناس .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:54 AM

فتح القادسية :

فلما انحسر الشتاء سار سعد إلى القادسية ، وكتب إلى عمر يستمده . فبعث إليه المغيرة بن شعبة ، في جيش من أهل المدينة ، وكتب إلى أبي عبيدة : أن يمده بألف . وسمع بذلك رستم بن الفرخزاد. فخرج بنفسه في مائة وعشرين ألفاً. سوى التبع والرقيق، حتى نزل القادسية ، وبينه وبين المسلمين جسر القادسية، وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ، ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلاً. واجتمع المسلمون حتى صاروا ثلاثين ألفاً ، فكانت وقعة القادسية المشهورة التي نصر الله فيها المسلمين ، وهزم المشركين . فلما هزم الله الفرس ، كتب عمر إلى سعد : أن أعد للمسلمين دار هجرة ، وإنه لا يصلح العرب إلا حيث يصلح للبعير والشاء ، وفي منابت العشب، فانظر فلاة إلى جانب بحر. فبعث سعد عثمان بن حنيف ، فارتاد لهم موضع الكوفة ، فنزلها سعد بالناس ، ثم كتب عمر إلى سعد :أن ابعث إلى أرض الهند -يريد البصرة- جنداً ، فلينزلوها. فبعث إليها عتبة بن غزوان في ثلاثمائة رجل حتى نزلها . وهو الذي بصر البصرة .
وفي هذه السنة : كانت وقعة اليرموك المشهورة بالشام . وخرج عمر إلى الشام ، ونزل الجابية ، فصالح نصارى بيت المقدس - وكانوا قد أبوا أن يجيبوا إلى الصلح مع أبي عبيدة ، حتى يكون عمر يعقدون الصلح معه- فصالحهم . واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ، واجتمع إليه أمراء الأجناد . فلما رجع إلى المدينة وضع الديوان ، فأعطى العطايا على مقدار السابقة . فبدأ بالعباس ، حرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بالأقرب فالأقرب .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:54 AM

حوادث السنة السادسة عشرة :
ثم دخلت السنة السادسة عشرة .
فيها : كتب عمر التاريخ . واستشار الصحابة في مبدئه . فمنهم من قال : نبدأ من بدء النبوة . ومنهم من قال : [من الوفاة، ومنهم من قال :] من الهجرة . فجعله عمر من الهجرة .

اسير الصحراء 04-27-2006 12:55 AM

حوادث السنة السابعة عشرة :
ثم دخلت السنة السابعة عشرة .
فكان فيها فتوح كثيرة شرقاً وغرباً .
وفيها فتحت تستر التي وجد فيها جسد دانيال عليه السلام . وكان المشركون يستسقون به .
وفيها : تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، طلباً لصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم .


الساعة الآن 05:04 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
][ ملاحظة: جميع المشاركات تعبر عن رأي الكاتب فقط ولا تمثل راي ادارة المنتدى بالضرورة، نأمل من الجميع الالتزام بقوانين الحوار المحترم ][